التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً
٥٤
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
٥٥
-مريم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { واذكر في الكتاب إِسماعيل }، فصل ذكره عن أبيه وأخيه؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمره، لإيراده مستقلاً بترجمته، { إِنه كان صادق الوعد }، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف؛ لكمال شهوته به.
رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل، وانتظر الرجلَ يومه وليلته - وقيل: ثلاثة أيام - فلما كان في اليوم الآخر، جاء الرجل، فقال له إسماعيل: ما زلتُ هنا من أمس. وقال الكلبي: انتظره سنة، وهو بعيد. قال ابن عطية: وقد فعل مثل هذا نبيُنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره، وذلك في مبايعة وتجارة هـ. وقال القشيري: وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه، فصبر على ذلك، إلى أن ظهر الفداء، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد. هـ.
وقال ابن عطاء: وعد لأبيه من نفسه الصبر، فوفى به، في قوله:
{ { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصَّافات: 102]. هـ. وهذا مبني على أنه الذبيح، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله.
{ وكان رسولاً نبيًّا } أي: رسولاً لجرْهُم ومن والاهم، مخبرًا لهم بغيب الوحي، وكان أولاده على شريعته، حتى غيرها عَمرو بن لحي الخزاعي، فأدخل الأصنام مكة. فما زالت تُعبَد حتى محاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشريعته المطهرة.
{ وكان } إسماعيل { يأمر أهله بالصلاة والزكاة }، قدَّم الأهل اشتغالاً بالأهم، وهو أن يُقبل بالتكميل على نفسه، ومن هو أقرب الناس إليه، قال تعالى:
{ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشُّعَرَاء: 214]، { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ } [طه: 132]، { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التّحْريم: 6]، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم؛ لأنهم قدوة يُؤتَسى بهم. وقيل: أهله: أمته؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - آباء الأمم. { وكان عند ربه مَرْضِيًّا }؛ لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الحق - جل جلاله - نبيه إسماعيل بثلاث خصال، بها كان عند ربه مرضيًا، فمن اتصف بها كان مرضيًا مقربًا: الوفاء بالوعد، والصدق في الحديث؛ لأنه مستلزم له، وأمر الناس بالخير. أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار، قد مدح الله تعالى أهله، ورغَّب فيه وأمر به، قال تعالى:
{ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [البَقَرَة: 177]. وقال تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } [النّحل: 91]، فإخلاف الوعد من علامة النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده، أو فرط فيه، وأما إن كان نيته الوفاء، ثم غلبته المقادير، فلا يضر، لا سيما في حق أهل الفناء، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم في عقد ولا حل، بل هم مفعول بهم، زمامهم بيد غيرهم، كل ساعة ينظرون ما يفعل الله بهم، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم في عقد ولا حل. فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم في التصرف، ولذلك قالوا: (الصوفية أطفال في تربية الحق تعالى). فإياك أن تطعن على أولياء الله إذا رأيت منهم شيئًا من ذلك، والتمس أحسن المخارج، وهو ما ذكرته لك، فإنه عن تجربة وذوق. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ذكر نبيه إدريس عليه السلام