التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١٧٢
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: أصل اضْطُرَّ: اضتُرِرَ، على ومن افتعل، من الضرر، أُبدلت التاء طاءً لقرب مخرج التاء من الطاء، قال في الألفية:

طا تا افْتِعَالٍ رُدَّ إثْرَ مُطْبقِ

ثم أدغمت الراء في الراء بعد ذهاب حركتها، وقرأ أبو جعفر: بكسر الطاء حيث وقع: ووجهُه: نقل حركة الراء إلى الطاء، وأصل البغي: قصد الفساد، يقال: بغي الجرح بغياً، إذا ترامى إلى الفساد، ومنه قيل للزنا: بِغاء، وللزانية: بَغِيّ، وأصل العدوان: الظلم ومجاوزة الحد، يقال: عَدَا يعدُوا عُدواناً وعَدْواً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا كلوا } من لذيذ { طيبات ما رزقناكم } وَقِفُو عند ما حلَّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم، كما فعل مَنْ سَلَفَ قبلكم، { واشكروا } نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة { إن كنتم } تخصُّونه بعبادتكم، فقد أحلّلْنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تُقِلكم.
{ إنما } حرمنا { عليكم } ما فيه ضررُكم كالميتة لخُبْثها، { والدم } لأنه يقسي قلوبكم، { ولحم الخنزير } لأنه يُورث عدم الغيرة، وما ذكر عليه غير اسم الله، وهو الذي { أُهِلَّ به لغير الله } أي: رُفع الصوت عند ذبحه لغير الله، وهو الصنم { فمن اضطر } وألجىء إلى شيء من هذه المحرمات، { غير باغ } أي: ظالم بأكلها اختياراً، { ولا عاد } متعدّ بتعدى الحلالَ إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها { فلا إثم عليه }، { أو غير باغ } غير قاطع للطريق، { ولا عاد }: مفارقة للأمة خارج عن الجماعة، فمن خرج يقطع الرحم، أو يُخيف ابنَ السبيل، أو يُفسد في الأرض، أو أَبَق من سيده، أو فرَّ من غريمه أو عاصياً بسفره، واضطر إلى شيء من هذه، فلا تحلُّ له حتى يتوب ويأكل، { فإن الله غفور رحيم }. وقال سهل بن عبد الله: { غير باغ }: غير مفارق للجماعة { ولا عاد }: مبتدع مخالف للسنّة، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو: يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، ثم إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال: (علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم). هـ.