التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { قتال }: بدل اشتمال من { الشهر الحرام }، وقد وقع خبط في عطف { المسجد الحرام }، والصواب: ما قاله الزمخشري وابن عطية أنه عطف على { السبيل }؛ إذ هو المتبادر من جهة المعنى أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام أكبر جرماً من قتل السَّرِية في الشهر الحرام، والقواعد النحوية إنما هي أغلبية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يسألونك } يا محمد { عن الشهر الحرام } أي: عن القتال في الأشهر الحرام، { قل } لهم: القتالُ في الشعر الحرام أمره { كبير }، لكن ما وقع من الكفار من صد الناس { عن سبيل الله } أي: منعهم من الإسلام والطاعة، وكذلك كفرهم بالله وصدهم المسلمين عن { المسجد الحرام } عام الحديبية، وإخراج المسلمين من مكة التي هي بلدهم - { والفتنة } التي هم فيها من الكفر، وافتتان الناس عن دينهم - { أكبر } جرماً من القتال الذي وقع في الشهر الحرام تأويلاً وظنّاً أنه لم يدخل الشهر الحرام.
وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سريةً وأمَّر عيلها عبد الله بنَ جَحْش في آخر جُمَادى الآخِرَةِ، فَلَقُوا عمرو بن الحضرمي، مع أناس من قريش، بعد غروب الشمس من جمادى الآخرة، فرموا عمراً فقتلوه، وأخذواو الغنيمة، فقال لهم عليه الصلاة والسلام:
"لم آمركم أن تقتلوا في الشهر الحرام" فندموا، وبعثت قريش بالعتاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف تستحل القتال في الشهر الحرام؟ فنزلت هذه الآية. ثم نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [التّوبَة: 36].
ثم قال الحقّ جلّ جلاله في التحذير من الكفار: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }، لكن لا يطيقون ذلك، { ومن يرتدد منكم عن دينه } ويستمر عليه حتى يموت { وهو كافر فأولئك حَبِطَتْ أعمالهُم في الدنيا } فلا حرمة له، ولا نصيب له في الفيء والغنيمة، وفي { الآخرة } فلا يرى لها ثواباً، { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
ومفهوم الآية: أنه إن رجع قبل الموت لا يحبَط عملُه، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يحبط أجر كل ما عمل، ويعيد الحج، إن تقدم على الردة، ويقبل منه الإسلام إن رجع، فإنْ لم يرجع أمهل ثلاثة أيام، ثم يقتل.
ولمّا نزلت الآية في إسقاط الحرج، ظنوا أنه لا أجر لهم في ذلك الجهاد، فأنزل الحقّ جلّ جلاله: { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله } أي ثوابه، { والله غفور } لهم { رحيم } بهم، فلا يضيع جهادهم في هذه السرِيَّة، وأعاد الموصول لتعظيم شأن الهجرة والجهاد، وعبَّر بالرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب للثواب، وإنما هو عبودية، والأمر بيد الله؛ إن شاء أثاب وإن شاء عاقب،
{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [الأنبيَاء: 23].
الإشارة: تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال، وهو وقت حضرة الذكر، أو التذكير، أو الجلوس مع العارفين أهل الإكسير، فسوء الأدب فيه أمره كبير، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد، ومن سبق له الحرمان، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان، رجع ولو بعد العيان، وأنشدوا:

والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ وإنْ ثَمِلْ وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ، سَيْرٌ سَرِيعْ وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا

إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله، أولئك يرجون رحمة الله، فلا يُخيبهم الكريم؛ لأنه غفور رحيم.
ولمّا كان الخمر حلالاً في أول الإسلام، وكانوا يشربونه، ويتِّجُرون فيه، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار، بيَّن الحقّ تعالى ذلك، بعد الأمر بالإنفاق؛ لئلا يقع التساهل في المعاملة بعلَّة الصدقة.