التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لولا } حرف امتناع لوجود، تلزم الدخول على المبتدأ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه، أي: لولا فضل الله عليكم ورحمته موجودان، وقال الكوفيون، فاعل بمحذوف: أي: لولا أن ثبت فضل الله عليكم ورحمته، و(لكنتم): جوابها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين { أَخَّدْنَا مِيثَاقَكُمْ } أن تقبلوا تكاليف التوراة، وكانت شاقة عليهم، فلما أبيتم قبولها، قلعنا الطور، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم، كالظلة، وقلنا لكم: { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم } من التوراة بجد واجتهاد، { واذكروا ما فيه } من الوعظ والتذكير { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الله، فتفوزون بالخير الكثير، فقبلتم ذلك كرهاً { ثُمَّ تَوّلَّيْتُم } وأعرضتم بعد لك، فسفكتم الدماء، وقتلتم الأنبياء، { فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } بتوفيقكم للتوبة، { وَرَحْمَتُهُ } بقبولها منكم، فخسرتم الدنيا والآخرة.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } ما جرى للذين { اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ } في زمن داود عليه السلام، وذلك في قرية يقال لها: "أيْلة"، كانت على شاطئ البحر، وقد نُهوا عن الاصطياد يوم السبت، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شُرَّعاً، فتُخْرِج خراطيمها للبر، فإذا كان يوم الأحد دخلت في البحر، فحفروا حياضاً، وشرعوا إليها جدوال، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد، فلمَّا لمْ يُعاقبوا على ذلك أحلُّوا يوم السبت، فانقسمت القرية على ثلاث فرق: قوم نهوا، وقوم سكتوا، وقوم اصطادوا، فمُسِخ من اصطاد قردة وخنازير؛ الشُّبان قردة، والشيوخ خنازير، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا. فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم - { نَكَالاً } وزجراً { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } في زمانها، وما خلفها؛ من يأتي بعدها، { وموعظة }: وتذكيراً { للمتقين } من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العائد ما تموت به نفسوهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب). والمراد باليد: الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود العيان.
قلت: وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كانت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.