التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء } { أَنتُمْ }: مبتدأ، و { هَؤُلاء }: خبر، و { تَقْتُلُون }: حال، كقولك: أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا، أو { هَؤُلاءِ }: بدل، و { تَقْتُلُونَ }: خبر أو منادي، أي: يا هؤلاء، أو منصوب على الاختصاص، والْعُدْوَانِ: الإفراط في الظلم، و { أُسَارَى } حالٌ، جميع أسير، ويجمع على أًسرى، وقرئ به؛ أي: مأسورين: و { هُوَ } ضمير الشأن، و { مُحَرَّمٌ } خبر، و { إِخْرَاجُهُمْ } مبتدأ مؤخر، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ، و { مُحَرَّمٌ } خبره، و { إِخْرَاجُهُمْ } بدل من الضمير، وهذه الجملة متصلة بقوله: { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }، وما قبلها اعتراض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { و } اذكروا أيضاً { إِذْ أَخْذْنَا ميثَاقَكُمْ } وقلنا لكم: { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، { وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } أي: لا يخرج أحدكم أخاه من داره ويجليه عنها، وجعلهم الحق نفساً واحدة، وذلك هو في الحقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر:

عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا

{ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } على أنفسكم بذلك، { ثُمَّ أَنتُمْ } يا { هَؤُلاءِ } اليهود { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } أي: يقتل بعضكم بعضاً، { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ } إجلاءً عنها، تتغالبون { عَلَيْهِم } بالظلم والطغيان، { وَإِن يَأتُوكُمْ } مأسورين تفدوهم بمالكم، وذلك الإخراج محرم عليكم.
وحاصل الآية: أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب، فقالوا: تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون: قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ فقالوا: إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا، فوبخهم الله على ذلك، فقال:
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب } وهو الفداء { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج؟ { فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ } أي: ذل وهوان { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }، وهو السبي والقتل لبني قريظة، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ }. وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، بل نقمة وغضباً عليهم، { وَمَا اللَّهُ بِغَافلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
الإشارة: الناس على قسمين: قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جلّ جلاله: لا تسفكوا دماءكم في محبتي؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار: (أول ما يقول الله للعبد: اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال: لا، ما أريد إلا أنت، قال له: من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم) وأنشدوا:

منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ
فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ

ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم: وإن يأتوكم أسارة في أيدي نفوسهم وعوائدهم، أو في طلب الدنيا وشهواتها، تفدوهم من أسرهم، وتفكوهم من قيودهم، وتدخلوهم في حضرة مولاهم، وفي بعض الآثار: (طالب الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير) هـ. والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد، فإذا انفك العبد من هواه، دخل في حضرة مولاه، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له: وهو محرم عليكم إخراجهم، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة، وأنوار الحقيقة؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع، والخوف والجزع وطول الأمل، وعدم النهوض إلى العمل، { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب }، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، { وما الله بغافل عما يعملون }.