التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ
٩
إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى
١٠
فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ
١١
إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٢
وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ
١٣
إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ
١٤
إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
-طه

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: قال القشيري: أجرى الله سنته في كتابه أن يذكر قصة موسى في أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا - عليه الصلاة والسلام - يتبعه بذكر موسى، تنبيهًا على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور، فالتكرير في التفصيل يوجب التفضيل، في الوصف؛ لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارًا كثيرة كانت في باب البلاغة أتم، ولا سيما في كل مرة فائدة زائدة. هـ.
قلت: ولعل وجه تناسقهما في الذكر قرب المنزلة، ومشاركة الصفة، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة، فإن أمة موسى عليه السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبي هداية على يديه لقومه مثله، إلا لنبينا - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر، وفي حديث البخاري ما يدل على هذا، حين عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم مرة، فرأى أمة موسى عليه السلام كثيرة، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه.
وقال أبو السعود: المناسبة إنما هي تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مَسَاق الحديث، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء، كابرًا عن كابر، وقد خوطب به موسى عليه السلام، حيث قيل له: { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا فاعبدني }، وبه ختم عليه السلام مقاله، حيث قال:
{ إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [طه: 98]، ثم ردَّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق. فانظره. و { هل }: لفظة استفهام، والمراد به التشويق لما يخبره به، أو التنبيه. و { إذ رأى }: ظرف للحديث؛ لأن فيه معنى الفعل، أو لمضمر مؤخر، أي: حين رأى كان كيت وكيت، أو: لاذكر، أي: اذكر وقت رؤيته... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وهل أتاك حديثُ موسى }: أي: قصته في معالجة فرعون، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرًا لأمر التوحيد، { إِذْ راى نارًا } تلمع في الوادي، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام في الخروج إلى أمه وأخيه، فخرج بأهله، وأخذ على غير الطريق، مخافةً من ملوك الشام، فلما وافى وادي طُوى، وهو بالجانب الغربي من الطور، وُلد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد ضل عن الطريق، وتفرقت ماشيته، ولا ماء عنده، فقدحَ النار فلم تُورِ المِقْدَحة.
فبينما هو في ذلك { إِذْ رأى نارًا } على يسار الطريق من جانب الطور، { فقال لأهله امكثوا } أي: أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السلام بذلك؛ لئلا يتبعوه، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد، وقيل: لها وحدها، والجمع للتعظيم، { إِني آنستُ } أي: أبصرت { نارًا }، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به. { لعلّي آتيكم منها بقَبَس } أي: بشعلة مقتبسة من معظم النار، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص، وبالشهاب القبس، { أو أجدُ على النار هُدىً }؛ هاديًا يدلني إلى الطريق، فهو مصدر بمعنى الفاعل، و { أوْ } في الموضعين: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع؛ إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا. ومعنى الاستعلاء في قوله: { على النار }؛ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء، ولما كان الإيتاء بها غير محقق، صدَّر الجملة بكلمة الترجي.
{ فلما أتاها } أي: النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه: رأى شجرة خضراء، حفت بها، من أسفلها إلى أعلاها، نارٌ بيضاء، تتَقِدُ كأضوء ما يكون، فوقف متعجبًا من شدة ضوئها، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة، وقيل: سَمُرَة... بينما هو ينظر، { نُودي } فقيل: { يا موسى إِني أنا ربك }، أو بأني أنا ربك، وتكرير الضمير؛ لتأكيد الدلالة، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودي يا موسى، قال عليه السلام: مَن المتكلم؟ فقال الله عزّ وجلّ: { أنا ربك }، فوسوس إليه الخاطر: لعلك تسمع كلام شيطان، قال: فلما قال: { إنني أنا }، عرفت أنه كلام الله عزّ وجلّ. قيل: إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.
ثم قال له: { فاخلع نعليك }؛ لأنه أليق بحسن الأدب، ومنه أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر، وقيل: ليباشر الوادي المقدس بقدميه، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد، بخلعها ولو طاهرة، وقيل: إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل: النعلين: الكونين، أي: فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى: { إِنك بالوادِ المقدَّس }: تعليل لوجوب الخلع، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك. رُوي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي، و { طُوى }: بدل من الوادي، وهو اسم له. وقُرئ منونًا؛ لتأوله بالمكان، وغير المنون؛ لتأوله بالبقعة.
{ وأنا اخترتُك } أي: اصطفيتُكَ للنبوة والرسالة، وقرأ حمزة: { وإنَّا اخترناك } بنون العظمة، { فاستمع لما يُوحى } أي: للذي يُوحى إليك، أو لوحينا إليك، وهو: { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا }، فالجملة بدلَ من "ما". { فاعبدني }؛ أَفردني بالعبادة والخضوع، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. { وأقم الصلاة لذكري }: لتذكرني فيها؛ لاشتمالها على الأذكار، وأُفردت بالذكر، مع اندراجها في الأمر بالعبادة؛ لفضلها على سائر العبادات؛ لما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، فإنَّ الذكر كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة.
أو { لذكري }: لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، بحيث لا تُرائي بها غيري. وقيل: لذكري إياها، وأمري بها في الكتب، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء، وقيل: لأوقات ذكري، وهي مواقيت الصلوات، وقيل: لذكر صلاتي إذا نسيتها، لما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَة، أَوْ نَسِيَها، فَلْيُصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ لأنَّ الله تَعالى يَقُول: وأقم الصلاة لذكري"
. قال بعضهم: أصول العمل ثلاثة: أقوال وأفعال وأحوال، فأفضل الأقوال: لا إله إلا الله، وأفضل الأفعال: الصلاة لله أو بالله، وأفضل الأحوال: الطمأنينة بشهود الله.
{ إِن الساعة آتيةٌ }: كائنة لا محالة، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة، وإنما عبَّر بالإتيان؛ تحقيقًا لحصولها، بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. { أكادُ أُخفيها } أي: لا أظهرها، بأن أقول: آتية فقط، فلا تأتي إلا بغتة، أو أكاد أظهرها بإيقاعها، مِنْ أخفاه، إذا أظهره، فأخفى - على هذا - من الأضداد. وردّه ابن عطية، فإن الذي بمعنى الظهور هو: "خفى"؛ الثلاثي، لا "أخفى". وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغات: أخفى بمعنى خفى، أي: ظهر، فلا اعتراض.
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف عن غيري؟ وكذلك هو في مصحف أُبي، وفي مصحف عبد الله: فكيف يعلمها مخلوق، وفي بعض القراءات: وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يُخفي الله تعالى عن نفسه، وهو خَلَق الأشياء؟ قلنا: إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.
وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها. قال ابن عرفة في تفسيره: وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار، فتكون مقاربة لكل واحد منهما. هـ.
وقوله تعالى: { لتُجزى كُلُّ نفس بما تسعى } متعلق بآتية، أو بأُخفيها - على معنى: أظهرها -، لتُجزى كل نفس بسعيها، أي: بعملها خيرًا كان أو شرًا. { فلا يَصُدَّنك عنها } أي: عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها { مَن لا يؤمن بها } حتى تكسَل عن التزود لها. والنهي - وإن كان بحسب الظاهر متوجهًا للكافر عن صدر موسى عليه السلام - لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها، على أبلغ وجه، فإنَّ النهي عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني، كقوله تعالى:
{ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } [هُود: 89]، أي: لا تتبع في الصد عنها من لا يؤمن بها { واتَّبعَ هواه } أي: ما تهواه نفسه من اللذات الفانية، { فَتَرْدَى }: فتهلك؛ فإنَّ الإغفال عنها، وعن تحصيل ما يُنجي من أهوالها، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.
الإشارة: وهل أتاك أيها العارف حديث موسى، كيف سار إلى نور الحبيب، ومناجاة القريب، إذ رأى نارًا في مرأى العين، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين، فقال لأهله ومن تعلق به: امكثوا، أقيموا في مقام الطلب، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم، في نيل المُطَّلَبِ، إني آنست نارًا، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته، وهذا مقام الفناء، لعلي آتيكم منها بقبس، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم. أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين، فلما أتاها، وتمكن من شهودها، نودي يا موسى: إني أنا ربك، فلا نار ولا أثر، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر، في مرأى الأثر، فاخلع نعليك، أي: اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون، كما قال القائل:

واخلع النعلين إن جئتَ إلى ذلك الحي ففيه قدسنا
وعن الكونين كن منخلعــا وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا

إنك بالواد المقدس، أي: بحر حضرة القدس ومحل الأنس، قد طويت عنك الأكوان، وأبصرت نور الشهود والعيان، وأنا اخترتك لحضرتي، واصطفيتك لمناجاتي، فاستمع لما يوحى إليك مني، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي، فإذا تمكنت من شهودي، فانزل لمقام العبودية؛ شكرًا، وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية لا محالة، فأُكرم مثواك، وأُجل منصبك، وأرفعك مع المقربين، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهلُ العناد والجحود، فتسقط عن مقام القرب والأنس، وتصير في جوار أهل حجاب الحس، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابنُ الفارض، حيث قال في كلام له:

آنسْـتُ في الحَيّ نارًا لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُـلْـتُ امـْكـُثُـوا فلَعـلّي أجِدْ هُدايَ لَعَلّي
دَنَـوْتُ مِنها فـكانَتْ نار التكلم قبلي
نودِيتُ منها كـفاحًا رُدّوا لَياليَ وَصْـلي
حـتى إذا مال تَـدانَى الــ ــميقاتُ في جَمْعِ شَملي
صارَتْ جِـباليّ دكًا مـنْ هيبَةِ المُـتَجَـلّي
ولاحَ سـرًّ خَفيٌ يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي
فالموتُ فِيهِ حياتي وفي حَياتيَ قَتلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني مذ صار بَعْضِيَ كُلي

قوله: "صارت جبالي دكًّا" أي: جبال وجوده، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها، حياة لا موت بعدها. وقوله: "مذ صار بعضي كلي"، يعني: إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به، وهو بحر المعاني المُفني للأواني. وبالله التوفيق.
ثمَّ ذكر مكالمته مع كليمه موسى عليه السلام