التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { فِجَاجًا } : حال من "سُبل"، وأصله: وصف له، فلما تقدم أُعرب حالاً. وقيل { سُبُلاً }: بدل من { فجاجًا }. وفي إتيانه: إيذان أن تلك الفجاج نافذة؛ لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا. قاله المحشي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { أوَ لَمْ يَر الذين كفروا } رؤية اعتبار { أنّ السماواتِ والأرضَ } أي: جماعة السماوات وجماعة الأرض { كانتا }، ولذلك لم يقل كُنَّ، { رَتْقًا } أي: ملتصقة بعضها ببعض. والرتق: الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: كانتا مرتوقتين، أي: ملتصقتين، { ففتقناهما }؛ فشققناهما، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه: "كانتا شيئًا واحدًا متصلتين، ففصل الله بينهما، فرفع السماء إلى حيث هي، وأقرّ الأرض". وفي رواية عنه: أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدي: (كانت السماوات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها، فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض، كانت طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين).
فإِن قيل: متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا: مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها، وهو مشاهد بالأبصار، وهم متمكنون من النظر والاعتبار، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا، فَتَقَهَا ورفعها، وهو الحق جلّ جلاله، وذكر الرتق زيادة إخبار، فكأنه قال: ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي: لَمّا كان القرآن معجزًا، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي، أو: لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين، وما بينهما، وتباينهما، جائزًا عقلاً، وجب تخصيص التلاصق من التباين، وليس ذلك إلا لله تعالى. هـ.
وقيل: كانت السماوات صلبة لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالأمطار، والأرض بالنبات. ورُوي هذا عن ابن عباس أيضًا، وعليه أكثر المفسرين، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق، بهذا المعنى، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم، وعلى الثاني رؤية عين.
{ وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍّ } أي: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [النُّور: 45]، وذلك لأنه من أعظم مواده، أو لفرط احتياجه إليه، وحبه له، وعدم صبره عنه، وانتفاعه به، ويدخل في ذلك: النبات؛ مجازًا دون الملائكة، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل، كما في آية: { { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [يُوسُف: 17]، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل المراد به: المَنِيُّ. فأَلْ فيه، حينئذ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري: كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ، وهي من جملة الماء. هـ. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. { أفلا يؤمنون } بالله وحده، وهو إنكار لعدم إيمانهم، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.
{ وجعلنا في الأرض رواسِيَ } أي: جبالاً ثوابت، من رسا الشيءُ؛ إذا ثبت ورسخ، { أن تميد بهم } أي: كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم، أو لئلا تميد بهم - بحذف اللام -، و "لا"؛ لعدم الإلباس. { وجعلنا فيها } أي: في الأرض، وتكرير الجعل؛ لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه، أو في الرواسي؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق، { فِجاجًا }: جمع فج، وهو الطريق الواسع، نفذ أم لا، أي: جعلنا في الأرض مسالك واسعة، و { سُبُلاً } نافذة: فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل: أيّ فرق بين هذا وبين قوله:
{ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [نُوح: 20]؟ فالجواب: أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
وقوله تعالى: { لعلهم يهتدون } أي: إلى البلاد المقصودة بتلك السبل، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. { وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا } من السقوط، كقوله:
{ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [الحَجّ: 65]، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم، أو من استراق السمع بالشهب، كما قال: { { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [الصَّافات: 7] . { وهم } أي: الكفار { عن آياتها } أي: عن الأدلة التي فيها، كالشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته، التي بعضها محسوس، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة، { مُعْرِضُون } لا يتدبرون فيها، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال، فيؤمنون.
{ وهو الذي خلق الليلَ } لتسكنوا فيه، { والنهارَ } لتتصرفوا فيه، { والشمسَ } لتكون سراجَ النهار، { والقمرَ } ليكون سراج الليل، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله: { كلٌّ } أي: كلهم، والمراد: جنس الطوالع، { في فَلكٍ يَسْبَحُون } أي: يسيرون سير العائم في الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه: الفلك السماء، وقيل: موج مكفوف تحت السماء، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك: جسم مستدير، وأنهن تسعة، وهل هي السماوات السبع، فيكون الكرسي ثامنًا، والعرش تاسعًا، أو غيرهن، فتكون تحت السماوات أو فوقها؟ قولان لهم. والمراد هنا: الجنس، كقولك: كَسَاهُمُ الأميرُ حلةٌ، أي: حُلة حُلةً، وجعل الضمير واو العقلاء؛ لأن السباحة حالُهم.
قال في المستخرج من كتاب الغزنوني: "كلٌّ" أي: كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة، وإن لم تُذْكرون؛ لأنه جمعَ قوله: { يَسْبَحُون } والمعنى: يجرون كالسابح أو يدورون، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك، ولها تسعة أفلاك، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زُحل، والثامن: فلك البروج، والتاسع: الفلك الأعظم. هـ. وقال في سورة يس: خص الشمس والقمر هنا، وفي سورة الأنبياء؛ لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سماوات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة، ميتة بالجهل، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى: أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية، انفتقت بالعلوم والأسرار، فهذا شاهد بوجود أهل التربية، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة. وجعلنا من ماء الغيب - وهي الخمرة الأزلية - كلَّ شيء حي، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول؛ لئلا تميل إلى الهوى فتموت، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة، وهي طرق كثيرة، والمقصد واحد، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء، التي هي معرفة الحق بالعيان، وهو قوله تعالى: { لعلهم يهتدون } إلى الوصول إلى حضرتنا.
وجعلنا السماء، أي: سماء القلوب الصافية، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين، قال بعضهم: "إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ). وهم عن آياتها، أي: عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون؛ لانهماكهم في الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان، كلٌّ في موضعه، لا يتعدى أحد على صاحبه، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وبالله التوفيق.
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة، وانقطعوا، قالوا: ننتظر به ريب المنون، فنستريح منه.
فأنزل الله تعالى