التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
-الحج

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لَمَن ضره }: قال ابن عطية: جرى فيه إشكال؛ وهو دخول اللام على "مَنْ"، وهو في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه؛ أحدها: أن اللام متقدمة على موضعها، والأصل أن يقال: يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب، فموضعها الدخول على المبتدأ، وثانيها: أنَّ { يدعوا } تأكيد ليدعو الأول، وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: { لَمَن ضره }، فمن مبتدأ، وخبره: { لبئس المولى } - قلت -: وإياه اعتمد الهبطي في وقفه، وثالثها: أن معنى { يدعو }: يقول يوم القيامة هذا الكلام، إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. هـ.
قلت والأقرب ما قاله الزجاج، وهو: أن مفعول { يدعو } محذوف، ويكون ضميرًا يعود على الضلال، وجملة: { يدعو }: حال، والمعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي: حال كونه مدعوًا له، ويكون قوله: { لمن ضره } مستأنفًا مبتدأ، خبره: { لبئس المولى }. نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ } أي: على طرف من الدين لا ثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس: "كان الرجل يَقدمُ المدينة، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه، قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تَلِد امرأته، ولم تنتج خيلُه، قال: هذا الدين سُوء". وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني: مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله: { إن الله يدخل الذين آمنوا... } الآية.
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله: { فإِن أصابه خيرٌ } أي: دنيوي؛ من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، { اطمأن به } أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. { وإِن أصابته فتنةٌ }: بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، { انقلب على وجهه } أي: ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال: ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال: ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: أَقِلْنِي، فقال:
"إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ" فَنَزلت.
{ خَسِرَ الدنيا والآخرة }: فَقَدَهُما، وضيعهما؛ بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب: خاسر، على حال. { ذلك هو الخسران المبين }؛ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله: { يدعو } أي: يعبد { مِن دون الله } أي: متجاوزًا عنه تعالى، { ما لا يضرُّه } إذا لم يعبده، { وما لا ينفعه } إذا عبده. { ذلك } الدعاء { هو الضلالُ البعيد } أي: التلف البعيد عن الحق.
{ يدعو } أي: يعبد { لَمَن ضَرُّهُ } أي: الصنم الجامد الذي ضرره { أقربُ من نفعه }. وقرأ ابن مسعود: "يدعو من ضره"، بحذف اللام. أو: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي: وهنا إشكال: وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب: أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. هـ. { لبئس المولى } أي: الناصر، { ولبئس العَشِيرُ } أي: الصاحب. أو يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن الناس من يعبد الله على حرف؛ على طرف من الدين، غير متمكن فيه، فإنه أصابه خير، وهو ما تُسر به النفس من أنواع الجمال، اطمأن به، وإن أصابته فتنة، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال، انقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله على طمع في الجزاء الدنيوي أو الأخروي، فإن أصابه خير فرح واطمأن به وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف، أي: حالة واحدة، فإن أصابه خير؛ كقوة ونشاط وورود حال؛ اطمأن به وفرح، وإن أصابته فتنة؛ كضعف وكسل وذهاب حال، انقلب على وجهه، ورجع إلى العمومية، أو وقف عن السير، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا: ما يفوته من عزّ الله ونصره لأوليائه، وحلاوة برد الرضا والتسليم، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة: ما يفوته من درجة المقربين ودوام شهود رب العالمين - فالواجب على العبد أن يكون عبدًا لله في جميع الحالات، لا يختار لنفسه حالاً على حال، ولا يقف مع مقام ولا حال، بل يتبع رياح القضاء، ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة.
قال بعضهم: سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم: "إلهي؛ قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطور أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء". وقال أيضًا: "لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء". فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.

لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَتَ مِنْ عِوَض

ثمَّ شفع الحق تعالى بضد ما ذكره قبل:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ ... }.