التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
-الحج

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة، فمن كان { يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة }، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده، ويفعل ما يدفع ذلك؛ من الخدع والمكائد، فليبالغ في استفراغ المجهود، وليجاوز كل حد معهود، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. { فليمدد بسبب إِلى السماء } أي: فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته، { ثم ليقطع } أي: ليختنق، من قَطعَ: إذا اختنق؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو: ليقطع من الأرض، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
{ فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه } أي: فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله، وسمى فعله كيدًا، على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه، فَتَحَصَّل أن الضمير في { ينصره } يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم ذكره صراحة، لكنه معهود؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل: يعود على { مَن }، والمعنى على هذا: من ظن - بسبب ضيق صدره، وكثرة غمه - أن لن ينصره الله، فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق، على هذا، القنوطُ والسخط من القضاء، وسوء الظن بالله تعالى، حتى يئس من نصره.
قال ابن جزي: وهذا القول أرجح من الأول؛ لوجهين: أحدهما: أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف؛ لأنه، إذا أصابته فتنة، انقلب وقنط، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر { أن لن ينصره الله } أي: لن يرزقه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ، فيكون الكلام، على هذا، متصلاً بما قبله. ويؤيده أيضًا: قوله تعالى، قبله: { إن الله يفعل ما يريد } أي: الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني: أن الضمير في "ينصره"، على هذا، يعود على ما تقدّمه ذكر، دون الأول. هـ. وانظر ابن عطية والكواشي، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي، ورده للأول، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
ثم قال تعالى: { وكذلك أنزلناه آيات } أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحِكَم البالغة، أنزلناه، أي: القرآن الكريم كله، حال كونه { آيات بيناتٍ } واضحات الدلالة على معانيها الرائقة، { وأن الله يهدي } به { مَن يريد } هدايته؛ ابتداء، أو يثبته على الهُدى دوامًا، ومحل "أن": إما الجار، أي: ولأن الله يهدي، أو الرفع، أي: والأمر أن الله يهدي من يريد.
الإشارة: من غلبته نفسُه، وملكته وأسرته في يدها؛ فدواؤه: الفزع إلى الله، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها: هو الفزع إلى أولياء الله، العارفين به، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل، فإذا ظفر بهم، فليلزم صُحبتهم، وليتبع طريقهم، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه، من غير تردد ولا توقف، فهم معناه، شرعًا، أم لا، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده، ويظفر بنفسه في أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان، وجَرِّبْ... ففي التجريب علم الحقائق، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد، فليفزع إليه، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام، وتذهب عنه الأمراض والأسقام، بإشراق شمس العرفان على قلبه، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان، وغير هذا عناء وتعب، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك، فلا يذهب عنه بالكلية، فربما يهيج عليه في وقت الضعف، عند الموت، فلا يستطيع دفعه، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.
فإن قلت: هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب؟ قلت: والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له: ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه؛ لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قال من آمن بالقرآن الذي هو آيات بينات