التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٣١
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣٢
وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
٣٣
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٣٤
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ
٣٥
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
٣٦
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
٣٧
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
٣٨
قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٣٩
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
٤٠
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤١
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { ثم أنشأنا من بعدهم }؛ من بعد قوم نوح { قرناً } أي: قوماً { آخرين } هم عادٌ قوم هود، حسبما رُوي عن ابن عباس، ويشهد له قوله تعالى: { { وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [الأعراف: 69]، ومجيء قصة هود على إثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء، ونقل ابن عطية عن الطبري: أن المراد بهم ثمود قوم صالح، قال: والترتيب يقتضي قوم عاد، إلاَّ أنهم لم يُهلكوا بالصيحة، بل بالريح، قال في الحاشية: والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال: وفي السيرة: عادٌ بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح، وثمود بن عابر بن أرَم بن سام بن نوح. هـ.
{ فأرسلنا فيهم }، الإرسال يُعَدّى بإلى، ولم يُعَدَّ بها هنا وفي قوله:
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِىۤ أُمَّةٍ } [الرعد: 30]، { { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ } [الأعراف: 94]؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال، إيذاناً بأن المرسَل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم، بل إنما نشأ بين أظهرهم، كما ينبىء عنه قوله: { رسولاً منهم } أي: من جملتهم نسباً، وهو: هود أو صالح، فإنهما - عليهما السلام - كانا منهم. قائلاً لهم: { أنِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهُ أفلا تتقون } عذابه، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
{ وقال الملأُ من قومه }، ذكر مقال قوم هود، في جوابه، في الأعراف وهود بغير "واو"؛ لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال قومه؟ فقيل: قالوا: كيت وكيت، وهنا مع الواو؛ لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول؛ ومعناه: حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام؛ لأنه جواب لقوله، واقعٌ عَقِبَه،، أي: وقال الأشراف من قومه { الذين كفروا }، وُصفوا بالكفر؛ ذَماً لهم، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه، { وكذَّبوا بلقاء الآخرة } أي: بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية، { وأترفناهم }: نَعَّمناهم { في الحياة الدنيا } بكثرة الأموال والأولاد، أي: قالوا لأتباعهم، مُضلين لهم: { ما هذا } النبي { إلا بشرٌ مثلُكم } في الصفة والأحوال، والاحتياج إلى القِوام، ولم يقولوا: مثلنا؛ تهويناً لأمره عليه السلام.
ثم فسر المثلية بقوله: { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } أي: منه، فحذف؛ لدلالة ما قبله عليه، { ولئن أطعتم بشراً مثلكم } فيما يأمركم به وينهاكم عنه، { إنكم إذاً لخاسرون } بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبَوْا اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
{ أَيعدُكُمْ أنكم إِذا مِتُّم } - بالكسر والضم -؛ من مات يُمات ويموت، { وكنتم تراباً وعظاماً } نخرة، { أنكم مُخْرَجُون }، فأنكم الثانية، توكيد للأولى؛ للفصل بينهما، والتقدير: أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً؟ { هيهات هيهاتَ }، تكرير؛ لتأكيد البُعد، وهو اسم فعل مبني على الفتح، واقع موقع بَعُد، فاعلها مضمر، أي: بعد التصديق أو الوقوع { لِما تُوعدون } من العذاب، أو فاعلها: "ما توعدون"، واللام زائدة، أي بَعُد ما تعدون من البعث، وقيل: ما توعدون من البعث. وقيل: مبتدأ، وهما اسم للبعد، و (لما توعدون): خبر، أي: بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون، { إن }: ما { هِيَ إلا حياتنا الدنيا }، والضمير لا يُعْلَمُ ما يُغْنَى به إلا بما بعده من بيانه، وأصله: إن الحياةُ إلا حياتنا، وأتى بالضمير؛ حذراً من التكرير، أي: لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها، ودنت منها، { نموت ونحيا } أي: يموت بعضنا ويولد بعضٌ، إلى انقراض العصر، { وما نحن بمبعوثين } بَعد الموت، { إن }؛ ما { هو إلا رجل افترى على الله كَذِباً } فيما يدَّعيه من الإرسال، وفيما يَعدنا من البعث، { وما نحن له بمؤمنين }: بمصدِّقين بما يقول.
{ قال } هود، أو صالح - عليهما السلام - بعدما سلك في دعوتهم كل مسلك، متضرعاً إلى الله - عز وجل -: { ربِّ انصرني } عليهم، وانتقم منهم { بما كذَّبونِ } أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه، { قال } تعالى؛ إجابة لدعائه: { عمَّا قليلٍ } أي: عن زمان قليل، زيدت "ما"، بين الجار والمجرور؛ لتأكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة، أي؛ عن شيء قليل { ليصبِحُنَّ نادمين } عما فعلوا من التكذيب، وذلك عند معاينتهم العذاب.
{ فأخذتهم الصيحةُ }، لعلهم، حين اصابتهم الريح العقيم، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها: صرير الريح وصوته. وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا، وقيل: الصيحة: العذاب المصطلِم، قال الشاعر:

صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيَحةً خَرُّوا؛ لشِدَّتها، على اْالأَذْقَانِ

وإذ قلنا: هم قوم صالح، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام، صاح عليهم فدمرهم. وقوله: { بالحق } أي: بالعدل من الله، يقال: فلان يقضي بالحق، أي بالعدل، أو: أخذتهم بالحق، أي: بالأمر الثابت الذي لا دفاع له، { فجعلناهم غُثاء } أي: كغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والحشيش، شبههم في دمارهم بالغثاء، وهو ما يرميه السيل، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب. { فبُعداً }: فهلاكاً، يقال بَعُدَ بُعْداً، أي: هلك هلاكاً، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها، أي: فسحقاً { للقوم الظالمين }، وهو إخبار، أو دعاء، واللام؛ لبيان من دُعي عليه بالبُعد، كقوله: { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من عادة الحق - سبحانه -، إذا أكب الناس على دنياهم، واتخذوا إلههم هواهم، بعث من يذكرهم بالله، فيقول لهم: اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، أي: أفردوه بالمحبة، واقصدوه بالوجهة، فما عبدَ الله من عبد هواه، فيقول المترفون، وهم المنهمكون في الغفلة، المحجوبون بالنعمة عن المنعم، الذين اتسعت دائرة حسهم: ما هذا الذي يعظكم، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم، ألا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية، فإذا تمادوا في غفلتهم، وأيس من هدايتهم، ربما دعا عليهم، فأصبحوا نادمين، حين لا ينفعهم الندم، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ. وبالله التوفيق.