التفاسير

< >
عرض

وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٣٢
وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٣
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٣٤
-النور

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: الأيامى: جَمْعُ أَيِّمٍ، وأصله: أيايم، فقلبت الياء؛ لآخِر الكلمة، ثم قلبت ألفاً، فصارت أيامى. والأيم: من لاَ زوج له من الرجال والنساء.
يقول الحق جل جلاله: { وَأَنْكِحُوا } أي: زَوِّجُوا { الأيامى منكم } أي: مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء، بِكراً كان أو ثيباً. والمعنى: زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر. والخطاب للأولياء والحكام، أمرهم بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن. وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح، واشتراط الولي فيه، وهو مذهب مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة.
{ والصالحين } أي: الخيّرين، أو: مَنْ يصلح للتزوج، { من عِبَادِكم وإمائِكم } أي: من غلمانكم وجواريكم، والأمر: للندب؛ إذ النكاح مندوب إليه، والمخاطبون: ساداتهم. ومذهب الشافعي: أن السيد يُجبَر على تزويج عبيده، لهذه الآية، خلافاً لمالك، ومذهب مالك: أن السيد يَجْبُر عبدَه على النكاح، خلافاً للشافعي. واعتبار الصلاح في الأَرِقَّاءِ: لأن مَنْ لاَ صَلاَحَ له بمعزلٍ من أن يكون خليقاً بأن يَعْتَنِيَ مولاه بشأنه، وأيضاً: فالتزويج يحفظ عليه صَلاَحَهُ الحاصل، وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر؛ لأن الغالب فيهم الصلاح، على أنهم مستبدون بالتصرف في أنفسهم وأموالهم، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم.
وقيل: المراد بالصلاح: صلاحهم للتزوج، والقيام بحقوقهم، فإن ضَعُفُوا؛ لم يُزَوَّجُوا. ونفقة العبد على سيده؛ إن زَوَّجَه، أو أَذن له، وإلا خُيِّر فيه.
ثم قال تعالى: { إن يكونوا فقراءَ } من المال { يُغْنِهِمُ الله من فضله } بالكفاية والقناعة، أو باجتماع الرزقين. وفي الحديث:
"التمسوا الرزق بالنكاح" ، وقال ابن عجلان: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة، فقال: "عليك بالباءة"، أي: التزوج. وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ، متمسكين بقوله تعالى: { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم }، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة. فالغِنَى، للمتزوج، مقيد بالمشيئة، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج، وقيل: مقيد بحسن القصد، وهو مغيب. والله تعالى أعلم.
الترغيب في النكاح: قال صلى الله عليه وسلم:
"تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط" . وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده" ، وقال سمرة رضي الله عنه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل). وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من كان له ما يتزوج به، فلم يتزوج، فليس منا" . وقال عليه الصلاة والسلام: "من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه به، فلم يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما" . وقال أبو هريرة: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "شراركم عُزَّابُكُم، إذا تزوج أحدكم عَجَّ شيطانه: يا ويله عَصَمَ ابنُ آدَمَ ثلثي دِينِهِ" . وقال صلى الله عليه وسلم: "مسكين، مسكين، رجل ليست له امرأة، ومسكينة، مسكينة؛ امرأة ليست لها زوج، قالوا: يا رسول الله! وإن كانت غنية من المال؟ قال: وإن" .
وقال أبو أمامة: (أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأمَّنت عليهم ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء، فلا يتزوج ولا يتسرى؛ لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء، والمرأة تتشبه بالرجال، وقد خلقها الله أنثى، ومُضلل المساكين). وقال سهل بن عبد الله: لا يصح الزهد في النساء؛ لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين. ووافقه ابن عُيَيْنَةَ، فقال: ليس في كثرة النساء دنيا؛ لأن أزهد الصحابة كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً. هـ. من القوت.
وقال عطية بن بُسْر المازني: أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له:
"يا عكاف؛ ألك زوجة؟ قال: لا، يارسول الله، ولا أمة؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم، والحمد لله. قال: فإنك، إذاً، من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما تكون مؤمناً، فاصنع ما بدا لك. فإن سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأرذال موتاكم عزابكم، ما للشيطان، في سلاح، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا" . انظر الثعلبي.
قال تعالى: { ولْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحاً } أي: ليجتهد في العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجد الاستطاعة على النكاح؛ من المهر والنفقة، { حتى يُغْنِيَهُم الله من فضلِهِ }؛ حتى يقدرهم الله على المهر والنفقة، قال عليه الصلاة والسلام:
"يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجَاءٌ" ، فانظر كيف رتَّب الحق تعالى هذه الأمور؟ أَمَرَ، أولاً، بما يَعْصِمُ من الفتنة، ويُبعد عن مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح المُحَصَّنِ للدين، المغني عن الحرام، ثم بعزف النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة، عند العجز عن النكاح، إلى أن يقدر عليه. وبالله التوفيق.
الإشارة: الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نِتَاجُها حتى ينعقد النكاح بينها وبين شيخ كامل، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ، قذف نطفة المعرفة في الروح أو القلب أو النفس، ثم يربيها في مشيمة الهِمَّة، ثم في حَضَانة الحفظ والرعاية، فَيَظْهَرُ منها نِتاجُ اليقين والعلوم والأسرار والمعارف، وأما إن بقيت أيامَى؛ لا زوج لها، فلا مطمع في نِتَاجها، قال تعالى: { وأَنْكِحوا الأيامى منكم }، وهي الأرواح، والصالحين من قلوبكم، ونفوسكم، إن يكونوا فقراء؛ من اليقين، والمعرفة بالله، يغُنهم الله من فضله؛ بمعرفته، والله واسع عليم، وليتعفف، عن المناكر، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم، حتى يغنيهم الله من فضله؛ بالسقوط على شيخ كامل؛ فإنه من فضل الله ومنته، لا يسقط عليه إلا من اضْطُرَّ إليه، وصَدَقَ الطلبَ في الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ولما أمر بتزوج العبيد، أمر بمكاتبتهم، فقال:
{ ... وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ آتَاكُمْ... }.
قلت: الكتاب هنا: مصدر، بمعنى الكتابة. وهي: مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ، فإذا أداه؛ خرج حراً، وإن عجز، ولو عن نصف درهم، بقي رقيقاً.
يقول الحق جل جلاله: { والذين يَبْتَغُون الكتابَ } أي: والمماليك الذين يطلبون الكتابة { مما ملكتْ أيمانُكم }؛ من عبيدكم { فكاتِبُوهُم }، والأمر للندب، عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم: على الوجوب، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة، فأبى عليه أنس، فقال له عمر: لتكاتبنه، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ. وإنما حمله مالك على الندب؛ لأن الكتابة كالبيع، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها.
واختلف: هل يُجْبِرُ السيدُ عَبْدَهُ عليها، أم لا؟ قولان في المذهب. ونزلت الآية بسبب حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه. وحكمها عام، فأمر الله سادات العبيد أن يُكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة. والكتابة: أن يقول لمملوكه: كاتبتك على كذا، فإن أدى ذلك عُتِقَ، ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك. وتجوز حَالَّةً، وتسمى: القطاعة، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ.
وقوله تعالى: { إنْ علمتمْ فيهم خيراً }، أي: قدرة على الكسب، وأمانة وديانة، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط، فالخير هنا: القوة على الأداء بأي وجه كان، وقيل: هو المال الذي يؤدي منه كتابته، من غير أن يسأل أموال الناس، وقيل: الصلاح في الدين.
{ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم }، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته، واخْتُلِف: مَنِ المُخَاطَبُ بذلك؟ فقيل: هو خطاب للناس أجمعين، وقيل: للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل: للسادات المُكَاتِبينَ، وهو على هذا القول، ندب عند مالك، ووجوب عند الشافعي. فإن كان الأمر للناس، فالمعنى: أن يعطوهم صدقة من أموالهم، وإن كان للولاة: فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم، وقيل: يعطوهم من أموالهم، من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ، فقيل: الربع، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الثلث، وقال مالك: لا حد في ذلك، بل أقل ما يطلق عليه شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا يجبره مالك. وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل: في أول نَجْمٍ. قاله ابن جزي.
الإشارة: العبيد على أربعة أقسام: عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة، وعبد مأذون له في التجارة، وعبد مُكَاتبٌ، وعبد آبق. فمثال الأول، وهو العبد القن: أهل الخدمة، وهم العباد والزهاد، أقامهم الحق تعالى لخدمته، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته، أهل الصيام والقيام، وأهل السياحة والهيام. ومثال الثاني، وهو المأذون له: العارفون بالله، يتصرفون في ملك سيدهم بالله، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكمون بحكم الله ويأخذون من الله ويدفعون إلى الله، يأخذون النصيب من كل شيء، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء، قد سخرّ لهم كل شيء، ولم يُسَخَّرُوا لشيء، سُلَِطُوا على كل شيء، ولم يُسَلَّطْ عليهم شيء، يخالطون الناس بجسمهم، ويباينونهم بسرهم، فالدنيا سوق تجارتهم، والمعرفة رأس بضاعتهم، والعدل في الغضب والرضا مِيزانُهم، والقصد في الفقر والغنى عُنْوانهم، والعلم بالله مفزعهم ومنجاهم، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم، والفهم عن الله مرجعهم ومأواهم.
ومثال الثالث، وهو المُكَاتَب: الصالحون من المؤمنين؛ يعملون على فك رقبتهم من النار، فإذا أدوا ما فرض عليهم؛ حررهم بعد موتهم، وأسكنهم فسيح جنانه. ومثال الآبق: هم العصاة والفجار، استمروا على عصيانهم، حتى قدموا على الملك الجبار، فهم تحت حكم المشيئة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا، فقال:
{ ... وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [آية: 33-34].
يقول الحق جل جلاله: { ولا تُكْرهُوا فتياتكم } أي: إِمَاءَكُمْ، يقال للعبد: فتى، وللأمة: فتاة. والجمع: فتيات، { على البغاء } أي: الزنا، وهو خاص بزنا النساء. كان لابن أُبيِّ ست جوار: مُعَاذَة، ومُسَيْكَة، وأميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، وكان يكرههن، ويضرب عليهن الضرائب لذلك، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
وقوله تعالى: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي: تعففاً، ليس قيداً في النهي عن الإكراه، بل جرى على سبب النزول، فالإكراه: إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف، وكذلك الأمر بالزنا، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا. وفيه توبيخ للموالي؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن؛ فأنتم أولى بذلك، ثم علل الإكراه بقوله: { لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا } أي: لتبتغوا بإكراهن على الزنا أجورهن وأولادهن، جيءَ به؛ تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير، أي: لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال.
{ ومن يُكْرِههُنَّ }؛ على ما ذُكِرَ من البغاء، { فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ } لهن { رحيمٌ } بهن، وفي مصحف ابن مسعود كذلك. وكان الحسن يقول: لهن والله. وقيل: للسيد إذا تاب. واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم: إما اعتبار أنهن - وإن كن مُكْرَهَاتٍ - لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية، وإما لغاية تهويل أمر الزنا، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة، لولا أن تداركهن المغفرة، الرحمة، مع قيام العذر في حقهن، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب؟
{ ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ }؛ مُو ضِّحَات، أو: واضحات المعنى، والمراد: الآيات التي بُينت في هذه السورة، وأوضحت معاني الأحكام والحدود. وهو كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة؛ لبيان جلالة شأنها، المقتضي للإقبال الكلي على العمل بمضمونها. وصُدر بِالْقَسَمِ الذي تُعرب عنه اللام؛ لإبراز كمال العناية بشأنها. أي: والله، لقد أنزلنا إليكم، في هذه السورة الكريمة، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه؛ من الحدود وسائر الأحكام، وإسناد البيان إليها: مجازي، أو: آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة، على أن "مُبَيِّنات"، مِنْ بيَّن، بمعنى تبين، كقولهم في المثل: " قد بيَّن الصبح لذي عينين"، أي: تبين. ومن قرأها بالبناء للمفعول، فمعناه: قد بيَّن الله فيها الأحكام والحدود.
{ ومثلاً من الذين خَلَوا مِن قبلكم } أي: وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم، من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء، فتنتظم قصة عائشة - رضي الله عنها - المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة، انتظاماً واضحاً. وتخصيص الآيات البينات بالسوابق، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات.
{ و } أنزلنا { موعظةً للمتقين } يتعظون بها، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب، والمراد: ما وعظ به من الآيات والمثل، مثل قوله:
{ { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } [النور: 2]، و { { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ... } [النور: 12] إلخ، { { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } [النور:17].
وتخصيص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتسبون لأنوارها، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي. وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ، والموعظة بما وعظ به من قوله: { ولا تأخذكم... } إلى آخر ما تقدم. وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة: جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها، أو رضي فعلها، فهو شريك الفاعل في الوزر، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب، أو أعظم. وفي الأثر:
"الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه" .
قال القشيري: حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل: تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
ثم إن أنوار الشريعة وهي أحكام المعاملة الظاهرة تهدي إلى أنوار الطريقة وهي أحكام المعاملة الباطنة وأنوار الطريقة تهدي إلى أنوار الحقيقة وأنوار الحقيقة تصير الكون كله نوراً كما قال تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... }