البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قلت: اسم الجمع واسم الجنس يُذكر ويُؤنث، كقوم، ورهط، وشجر.
يقول الحق جل جلاله: { كذبَتْ قومُ نوحٍ }، وهو نوح بن لامَك. قيل: وُلد في زمن آدم عليه السلام، قاله النسفي، وإنما قال: { المرسلين }، والمراد: نوح فقط؛ لأن من كذَّب واحداً من الرسل فقد كذب الجميع، لاتفاقهم في الدعوة إلى الإيمان، لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل. وقد يُراد بالجمع: الواحد؛ كقولك: فلان يركب الخيل، ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبُرد واحد.
{ إذ قال لهم }: ظرف للتكذيب، أي: كذبوه وقت قوله لهم { أخوهم نوحٌ }؛ نسباً، لا ديناً، وقيل: أخوة المجانسة، كما في آية: { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم: 4]: { ألاَ تتقون } خالق الأنام، فتتركوا عبادة الأصنام، { إني لكم رسول أمين }، كان مشهوراً بالأمانة عندهم، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم في قريش، ما كانوا يُسمونه إلا محمداً الأمين. { فاتقوا الله وأطيعونِ } فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان.
{ وما أسألكم عليه } أي: على ما أنا مُتصدٍ له من الدعاء والنصح، { من أجرٍ } أصلاً { إنْ أجريَ } فيما أتولاه { إلا على ربِّ العالمين }؛ لا أطمع في غيره، { فاتقوا الله وأطيعون }، الفاء؛ لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ من تنزيهه عليه السلام عن الطمع، كما أن نظيرتها السابقة؛ لترتيب ما بعدها على أمانته. والتكرير؛ للتأكيد، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا؟ كأنه قال: إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله وأطيعون.
{ قالوا أَنُؤْمِنُ لك واتبعك } والحالة أنه قد تبعك { الأرْذَلونَ } أي: الأرذلون جاهاً ومالاً، والرذالة: الدناءة والخسة، وإنما استرذلوهم؛ لاتضاع نسبهم، وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: كانوا من أهل الصناعة الدنيئة، قيل: كانوا حاكة وأساكفة - جمع إسكاف - وهو الخَفَّافُ - أي: الخراز، وقيل: النجار. والصناعة لا تزري بالديانة، فالغنى غنى القلوب، والنسب نسب التقوى، والعز عز العلم بالله لا غير، ومرادهم بذلك: أنه لا مزية لك في اتباعهم؛ إذ ليس لهم رزانة عقل، ولا إصابة رأي، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي. وهذا من كمال سخافة عقولهم، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا، والأرذل مَنْ حُرمَها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف مَنْ فازَ بِه، وسكن في جوار الله، والأرذل من حُرم ذلك.
قال القشيري: ذكر ما لَقِيَ من قومه، وقوله: { واتبعك الأرذلون }، وكذلك أتباع الرسل، إنما هم الأضعفون، لكنهم - في حُكم الله - هم المقدّمون الأكرمون، قال صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بضعفائكم" ، إلخ كلامه.
{ قال وما عِلْمِي } أي: وأيّ شيء علمي { بما كانوا يعملون } من الصناعات، إنما أطلب منهم الإيمان. وقيل: إنهم طعنوا في إيمانهم، وقالوا: لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما اتبعوك؛ طمعاً في العدة والمال، أي: وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، دون التنقير على بواطنهم، والشق عن قلوبهم، { إنْ حسابهم إلا على ربي } أي: ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي؛ فإنه المطلع على السرائر، { لو تشعرون } بشيء من الأشياء، أو: لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك، ولكنكم كالبهائم أو أضل.
{ وما أنا بِطَاردِ المؤمنين } أي: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم، فأطرد المؤمنين؛ طمعاً في إيمانكم، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه، { إنْ أنا إلا نذير مبين } وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً؛ بالبرهان القاطع، وأنتم أعلم بشأنكم، أي: وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين، سواء كانوا أعزاء أو أراذل، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟. { قالوا لئن لم تَنْته يا نوحُ } عما تقول { لتكوننَّ من المرجومين }؛ من المقتولين بالحجارة. قالوه في آخر أمره.
{ قال ربِّ إنَّ قومي كذَّبونِ }؛ تمادوا على تكذيبي، وأصروا عليه، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة، فلم يزدهم دعائي إلا فِراراً، وليس هذا من قبيل الإخبار؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإنما هو تضرع وابتهال، بدليل قوله: { فافتحْ بيني وبينهم فتحاً }؛ أي: احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا، وهذه حكاية إجمالية، قد فصلت في سورة نوح { وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِين } من شرهم، أو من شؤم عملهم.
{ فأنجيناه ومن معه } حسب دعائه { في الفلك المشحون }؛ المملوء بهم وبما لا بد لهم منه. { ثم أغرقنا بَعْدُ } أي: بعد إنجائهم { الباقين } من قومه، { إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله: { وما أسألكم عليه من أجر }؛ ليَعْلَمَ الكافةُ أنه من عَمِلَ له فلا ينبغي أن يطلب الأجر من غيره، ففي هذا تنبيهٌ للعلماء - الذين هم ورثة الأنبياء - أن يتأدبوا بآدابهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، ومن ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكرها من الدين، يَعِظُ بها المسلمين، فلا بارك الله للمسلمين فيما يَسْمعون منه، ولا للعلماءِ أيضاً بركةٌ فيما منهم يأخذون، فيبيعون دينَهم بَعَرَضٍ يسيرٍ، ثم لا بَركضةَ لهم فيه، إذ لا يتقربون به إلى الله، ولا ينتفعون به، ويَحْصُلون على سخط من الله. هـ.
قلت: أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل في هذا؛ إذ ليس فيه تكلف من أحد، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية، من غير استشراف نفسٍ ولا طمعٍ ولا تكلفٍ. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هود عليه السلام، فقال: { كَذَّبَتْ عَادٌ... }