التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٧٦
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ
١٧٧
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
١٧٨
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
١٧٩
وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٨٠
أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ
١٨١
وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ
١٨٢
وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
١٨٣
وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ
١٨٤
قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ
١٨٥
وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
١٨٦
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
١٨٧
قَالَ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨٨
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٨٩
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٩٠
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٩١
-الشعراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهي: الغيضة التي تنبت الشجر، والمراد بها: غيضة بقرب مدين، يسكنها طائفة منهم، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبياً منهم، ولذلك قيل: { إذ قال لهم شُعيبٌ } ولم يقل: أخوهم، بخلاف مدين، فإنه منهم، ولذلك قال: { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [الأعراف: 85 وهود: 84 والعنكبوت: 36] وقيل: الأيكة: الشجر الملتف، وكان شجرهم المقل، وهو الدوم. قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين؛ أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ: "لَيْكَةِ"؛ بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام، وإنما كتبت هنا وفي "ص" باللام؛ اتباعاً للفظ.
{ إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون } الله، فتوحدوه ولا تُطففوا، { إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه } أي: التبليغ؛ { من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين، أوْفُوا الكَيْلَ } أي: أتموه { ولا تكونوا من المخْسِرين } أي: حقوق الناس بالتطفيف، { وزِنُوا } أشياءكم التي تبيعونها { بالقِسْطَاسِ المستقيم } السوي. والقسطاس - بضم القاف وكسرها: الميزان، فإن كان من القسط - وهو العدل، وجعلت العين مكررة - فوزنه: فُعْلاَس، وإلا فهو رباعي، ووزنه: فُعْلاَلٌ. وقيل: عجمي.
{ ولا تبخسوا الناس أشياءَهم } أي: لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم، أيّ حق كان، يقال: بخسه حقه: إذا انتقصه. وقيل: نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام: واف، وزائد وناقص. فأمر الحق تعالى بالوافي، ونهى عن الناقص، وسكت عن الزائد، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن، وإن تركه فلا عليه. { ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين }؛ ولا تبالغوا فيها بالإفساد، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه، يقال: عَثِيَ كفرح، وعثا يعثو، كنصر.
{ واتقوا الذي خلقكم و } خلق { الجِبلّة الأولين } أي: الخلق الماضين، وهم من تقدمهم من الأمم، { قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا }، أدخل الواو بين الجملتين هنا؛ لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة؛ مبالغة في التكذيب، فتكذيبهم أقبح من ثمود, حيث تركه فدل على معنى واحد, وهو كونه مسحوراً, وقرره بكونه بشراً. ثم قالوا: { وإنْ نظنك } "إن": مخففة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لنظنك { لمن الكاذبين } فيما تدعيه من النبوة.
ثم استعجلوا العذاب بقولهم: { فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء } أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرئ بالسكون. أي: جُزءاً منه، والمراد بالسماء: إما السحاب، أو: السماء المظلة، { إن كنت من الصادقين } في دعواك الرسالة، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه.
{ قال } شعيب عليه السلام: { ربي أعلمُ بما تعملون } من الكفر والمعاصي، وبما تستحقونه من العذاب، فينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة، { فكذّبوه } أي: فتمادوا على تكذيبه، وأَصروا عليه { فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلَّة } حسبما اقترحوه. وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا فيها برداً ونسيماً، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً. وقيل: رفع لهم جبل، فاجتمعوا تحته، فوقع عليهم، وهو الظلة. وقيل: لما ساروا إلى السحابة صيح بهم فهلكوا. { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يومٍ عظيمٍ } أي: في الشدة والهول، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
{ إن في ذلك لآيةً وما كان أَكْثرُهُمْ مؤمنين } قيل: آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ - مدين والأيكة - تسعمائة إنسان، أو: وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لصرفه - عليه الصلاة والسلام - عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله:
{ { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ... } [الشعراء: 3]. إلخ، { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ } [الشعراء: 5، 6] الآية، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول، قد أتاهم من جهته تعالى، بموجب رحمته الواسعة.
{ وما كان أكثرهم مؤمنين } بعد ما سمعوها على التفصيل، قِصَّةً بعد قصةٍ، ليتدبروا فيها، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان، والزجر عن الكفر والطغيان، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة، الناطقة بتلك القصص، على ما هي عليه، مع علمهم بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال، أمر بالوفاء في الأعمال، ووفاؤها: إتقانها وإخلاصها، وتخليصها من شوائب النقص، في الظاهر والباطن. وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله: { وزنوا بالقسطاس المستقيم }، أمر بالعدل في الميزان المعنوي، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به، لا يُخرجه، حتى يزنه بميزان الشرع، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان، أو غيَّره، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه، قبل أن يصير هماً أو عزماً، فيعسر رده. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شواهد حقية القرآن، فقال: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ... }