التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
٧
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٩
-الشعراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: الهمزة: للإنكار التوبيخي، والواو: للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أَفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض.. إلخ. و(كم): خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.
يقول الحق جل جلاله: { أوَ لَم يروا } أي: ينظروا { إلى } عجائب { الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم }؛ أي: من كل صنف محمود كثير المنفعة، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر، دون ما عداه من الأصناف؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات؛ نافعها وضارها، ويكون وصف الكل بالكرم؛ للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة، إما وحده، أو بانضمامه إلى غيره، كما نطق به قوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة بالغة، وإن غفل عنه الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة، وهما "كم" و"كلّ"؛ أنّ كلمة "كلّ" تدل على الإحاطة بأزواج النبات؛ على سبيل التفصيل، و"كم" تدل على أنَّ هذا المحاط متكاثر، مفرط الكثرة، وبه نبّه على كمال قدرته.
{ إنَّ في ذلك } الإنبات، أو: كل صنف من تلك الأصناف { لآيةً } عظيمة دالة على كمال قدرته، وسعة علمه وحكمته، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان، الوازعة عن الكفر والطغيان. { وما كان أكثرُهُم } أي: أكثر قومه - عليه الصلاة والسلام - { مؤمنين } في علم الله تعالى وقضائه، حيث عَلِمَ أنهم سيصرفون عنه، ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام. وقال سيبويه: "كان": صلة، والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين، وهو الأنسب بمقام عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذورون فيه بحسب الظاهر؛ لأن التفريق بين القدرة والحكمة، اللتين هما محل التحقيق والتشريع، قد خفي على مهرة العلماء، فضلاً عن غيرهم. فالحكم بزيادة "كان" أقرب؛ كأنه قيل: إن في ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك؛ لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم؛ لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.
{ وإِنَّ ربك لهو العزيزُ }؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من هؤلاء، { الرحيمُ }؛ المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترأوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفي التعرض لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام -، من تشريفه والعِدَة الحقيّة بالانتقام من الكفرة مالا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة: أوَ لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة، والحِكَم العجيبة، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة، إنَّ في ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو: أوَ لم يروا إلى أرض العبودية، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية، والمقامات اليقينية، والمكاشفات الوهبية، إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها، وإن ربك لهو العزيز الرحيم، يُعز من يشاء، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.
ثم شرع في قصص الأنبياء، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وبدأ بموسى عليه السلام، لشدة معالجته لقومه، فقال: { وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ... }