التفاسير

< >
عرض

وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٧
حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ
١٩
-النمل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { قالت نملة }: التاء للوحدة، لا للتأنيث. قال الرضي: تكون التاء للفرق بين المذكر والمؤنث، وتكون لآحاد الجنس، كنحلة ونحل، وثمرة وثمر، وبطة وبط، ونملة ونمل، فيجوز أن تكون النملة مذكراً، والتاء للوحدة، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ. هـ. مختصراً. و(لا يحطمنكم): يحتمل أن يكون جواباً للأمر، أو: نهياً بدلاً من الأمر؛ لتقارب المعنى؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. والضد ينشأ عنه الحطْم، فلا: ناهية، ومثله الحديث: "فليُمسك بِنَصَالها، لا يعقر مسلماً" . هـ.
يقول الحق جل جلاله: { وحُشِرَ لسليمانَ } أي: جُمع له { جنودُهُ من الجنِ والإِنس والطيرِ } بمباشرة مخاطبيه، فإنهم رؤساء مملكته، وعظماء دولته، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه؛ لأن الجن طائفة عاتية، وقبيلة طاغية، ماردة، بعيدة من الحشر والتسخير، { فهم يُوزَعون } أي: يحبس أوائلهم على أواخرهم، أي: يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم الثواني، فيكونوا مجتمعين، لا يختلف منهم أحد، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
قال قتادة: فكان لكل صنف منهم وزعة. أو: لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر. والوزع: المنع، ومنه قول الحسن البصري، حين ولي القضاء: (لا بد للحاكم من وزعة) أي: شُرط يمنعون الناس من الظلم. وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر, دون سوق أواخرهم, مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً: لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو. قال محمد بن كعب: كان عسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم، فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء - عليهم السلام - على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، من الصباح إلى الرواح.
ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تُسيِّره، فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض: إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك. قال وهب: حدثني أبي: أن سليمان مرّ بحرّاثٍ، فقال: لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً، فالتفت ونزل إلى الحرّاث، فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود. هـ.
{ حتى إذا أتوا على وادِ النمل } أي: فساروا حتى بلغوا وداي النمل، وهو واد بالشام، كثير النمل، قاله مقاتل. أو: بالطائف، قاله كعب. وقيل: هو واد يسكنه الجن، والنمل مراكبهم. وعدي الفعل بـ "على"؛ لأن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي؛ إذ حينئذٍ يخافهم من في الأرض، لا عند سيرهم في الهواء. وجواب (إذ) قوله: { قالت نملة }، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم، فصاحت صيحة، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل.
قال كعب: مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير، من أودية الطائف، فأتى على واد النمل، فقالت نملة، وهي تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، مثل الذئب في العِظَم. قال الضحاك: كان اسم تلك النملة طاحية، وقيل: منذرة، وقيل: جرمي. وقال نوف الحميري: كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال: سلوني عما شئتم، فسأله أبو حنيفة، وهو شاب، عن نملة سليمان، أكان ذكراً أو أنثى؟ فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: بم عرفت؟ فقال: قوله تعالى: { قالت نملة } ولو كان ذكراً لقال: قال نملة. هـ. قلت: وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي.
{ قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } لم يقل: ادخلن؛ لأنه لَمَّا جعلها قائلة،والنمل مقولاً لهم، كما يكون من العقلاء، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل، { لا يَحْطِمَنَّكُمْ }؛ لا يكسرنّكم. والحطم: الكسر، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه، نحو: لا أرينك ها هنا، أي: لا تتعرضوا فيكسرنكم { سليمانُ وجنودُه }، وقيل: أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ. { وهم لا يشعرون } لا يعلمون بمكانكم، أي: لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال.
رُوي أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أَخفتِ ظلمي؟ أما عَلِمتِ أني نبي عدل، فلِمَ قُلتِ: { لا يحطمنكم سليمان وجنوده }؟ فقالت: أما سمعتَ قولي: { وهم لا يشعرون }، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح، فقال لها سليمان: عظيني، فقالت: هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود؟ قال: لا، قالت: لأنه داوى جرحَه. هل تدري لِمَ سميت سليمان؟ قال: لا، قالت: لأنك سليم، ما ركنت إلى ما أوتيت، لسلامة صدرك، وأنَى لك أن تلحق أباك. ثم قالت: اتدري لِمَ سخر الله لك الريح؟ قال: لا، قالت: أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح. قال ابن عباس: ومن هنا "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: الهدهد، والصُّرد، والنحلة، والنملة".
{ فتبسم ضاحكاً }، معجباً { من قولها } ومِن حَذَرِها، واهتدائها لمصالحها، ونُصحها للنمل، وفرحاً بظهور عدله. والتبسم: ابتداء الضحك، وأكثر الضحك الأنبياء التبسّم، أي: فتبسم ابتداء، ضاحكاً انتهاء. { وقال ربِّ أوزعني }، الإيزاع في الأصل: الكف، أي: كُفَّني عن كل شيء إلا عن شكر نعمتك، ويطلق على الإلهام، أي: ألهمني { أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من النبوة والمُلك والعلم، { وعلى والديَّ }؛ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد، { و } ألهمني { أن أعمل صالحاً ترضاه } في بقية عمري، { وأدخِلْني برحمتك } أي: وأدخلني الجنة برحمتك، لا بصالح عملي؛ إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك كما في الحديث. { في عبادك الصالحين } أي: في جملة أنبيائك المرسلين، الذين صلحوا لحضرتك. أو: مع عبادك الصالحين. رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود، ولم تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح، فوقفت؛ لئلا يذعرن، حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة. قاله النسفي.
الإشارة: من أقبل بكليته على مولاه، وأطاعه في كل شيء، سخرت له الأكوان، وأطاعته في كل شيء. ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء، وصعب عليه كلُّ شيء. "أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوانُ معك". فإذا سخرت له الأشياء، وزهد فيها، وأعرض عنها، واختار مقام العبودية، ارتفع قدره، ولم ينقص منه شيئاً، كحال نبينا - عليه السلام -. ومن سخرت له الأشياء، ونظر إليها، انتقص قدره، وإن كان كريماً على الله، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام: هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء. ذكره في القوت.
وذكر فيه أيضاً: أن سليمان عليه السلام لَبِسَ ذات يوماً ثياباً رفيعة، ثم ركب على سريره، فحملته الريح، وسارت به، فنظر إلى عطفيه نظرة، فأنزلته إلى الأرض، فقال لها: لِمَ أنزلتني ولَمْ آمرك؟ فقالت له: نطعيك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وتاب، فحملته. وهذا مما يعتب علىالمقربين؛ لِكِبر مقامهم، فكل نعيم في الدنيا ينقص في الآخرة. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ... }