التفاسير

< >
عرض

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
٥٤
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
٥٥
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
٥٦
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٥٧
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ
٥٨
-النمل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (ولوط): عطف على (صالحا) داخل معه في القسم، أي: ولقد أرسلنا صالحاً ولوطاً. و(إذ قال): ظرف للإرسال، أو: منصوب باذكر، و(إذ قال): بدل من (لوط).
يقول الحق جل جلاله: { و } لقد أرسلنا { لوطاً }، أو: واذكر لوطاً { إِذْ قال لقومه } أي: وقت قوله لهم: { أتأتونَ الفاحشةَ } أي: الفعلة المتناهية في الفُحش والسماجة، { وأنتم تبصرون } أي: الحالة أنكم تعلمون علماً يقينياً أنها فاحشة، لم تُسبَقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار، فإنَّ تعاطيَ القبيح من العالم بقُبحه أقبح وأشنع، ولذلك ورد في الخبر:
"أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامةِ عَالِمٌ لم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه" . وقال الفخر: لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم، وحين صدورها منه هو جاهل؛ لأنه رجح المرجوح وترجيح المرجوح جهل، ولذلك قال: { بل أنتم قوم تجهلون }. هـ.
وفي الحديث:
"لا يَزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" . إذ لو صدّق بإطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى، لكنه جهل ذلك. و { تُبصرون }، من: بصر القلب. وقيل: يُبصر بعضُكم بعضاً؛ لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم، معلنين بها، لا يستتر بعضهم من بعض، مَجانةً وانهماكاً في المعصية، أو: تُبصرون آثار العصاة قبلكم، وما نزل بهم.
{ أئنكم لتَأْتون الرجالَ شهوةً } أي: للشهوة { من دون النساء } أي: إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر، ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادة للهِ تعالى في حكمته، فلذلك كانت أشنع المعاصي، { بل أنتم قوم تجهلون }؛ تفعلون فعل الجاهلين بقُبحها، أو: تجهلون العاقبة. أو: بمعنى السفاهة والمجون، أي: بل أنتم سُفهاء ماجنون. والتاء فيه - مع كونه صفة لقوم؛ لكونهم في حيز الخطاب. وكذا قوله:
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [النمل: 47]، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة: "بل" للانتقال، والانتقال في باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وتقرير الأشدّية هنا: أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة تنقضي بانقضاء ذلك الفعل, والثاني راجع للقوة العلمية, وهي دائمة؛ لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم. هـ.
{ فما كان جوابَ قومه } حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله، { إلا أن قالوا أَخْرِجوا آلَ لوط } أي: لوطاً ومتبعيه { من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون }؛ يتنزهون عن أفعالنا، أو: عن القاذورات، ويعدون فعلنا قذراً. وعن ابن عباس: إنه استهزاء، كقوله:
{ { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } [هود: 87].
{ فأنجيناه }: فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم، { وأهلَه إلا امرأتَه قدرناها } بالتشديد والتخفيف، أي: قدرنا أنها { من الغابرين }؛ الباقين في العذاب. { وأمطرنا عليهم مطراً } غير معهود؛ حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها، { فساءَ }: قَبُحَ { مطرُ المنذَرِينَ } الذين لم يقبلوا الإنذار. وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم، والانهماك في غفلتهم، فرجعت إلى معصية القلوب، وهي أشد من معصية الجوارح؛ لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار، عادت طاعة، بخلاف معصية القلوب؛ فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب، فلا يزيد صاحبها إلا البُعد والطرد. والعياذ بالله.
ثم أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتحميد، ثم السلام على عباده المرسلين؛ توطئة لما يتلوه من دلالة على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء، وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال، بأن يبتدئ في خطبته بحمد الله والثناء على رسله، فقال: { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ... }