التفاسير

< >
عرض

أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦٤
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٦٥
-النمل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "من": إما فاعل بيعلم، و "الغيب": بدل منه، و "الله": مفعول، و"إلا الله": بدل على لغة تميم، أي: إبدال المنقطع، وإما مفعول بيعلم، و"الغيب" بدل منه و(الله): فاعل، والاستثناء: مفرغ.
يقول الحق جل جلاله: { أمّن يبدأُ الخلقَ } أي: ينشىء الخلق { ثم يُعيده } بعد الموت بالبعث. وإنما قيل لهم: { ثم يُعيده } وهم منكرون للإعادة؛ لأنهم أزيحتْ شبهتهم بالتمكن من المعرفة، والإقرار، فلم يبقَ لهم عذرٌ في الإنكار. { ومن يرزقكم من السماء } بالمطر { والأرض } أي: ومن الأرض بالنبات، أي: يرزقكم بأسباب سماوية وأرضية، قد رتبها على ترتيب بديع، تقضيه الحكمة التي عليها بني أمر التكوين، { أإله مع الله } يفعل ذلك؟ { قل هاتُوا بُرهانَكم } أي: حجتكم، عقلية أو نقلية، على إشراككم، { إن كنتم صادقين } في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر.
{ قل لا يعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله }، بعد ما حقق سبحانه انفراده بالألوهية، ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة, عقَّب بذكر ما هو من لوازمه, وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلاً لما قبله، وتمهيداً لما بعده من أمر البعث. قالت عائشة - رضي الله عنها -: (منْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيةَ، والله تعالى يقول: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلا الله } ).
دخل على الحجاج مُنجِّم, فأخذ الحجاج حصياتٍ، قد عدَّها, فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأصاب، ثم اغتفله الحجاجُ، فأخذ حصيات لم يعدها، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك، فقال: ما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذلك أحصيتَه فخرج من حَد الغيب, فحسبتُ فأصبتُ, وإن هذا لم تعرف عدته، فصار غيباً، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
ومن جملة الغيب: قيام الساعة، ولذلك قال: { وما يشعرون أيّان يُبعثون } أي: متى ينتشرون من القبور، مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهل الأمور عندهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرزق ثلاثة: رزق الأشباح، ورزق القلوب، ورزق الأرواح، فرزق الأشباح معلوم، ورزق القلوب: اليقين والطمأنينة، ورزق الأرواح: المشاهدة والمكالمة. قُل من يرزق قلوبكم وأرواحكم من سماء غيب القدرة وأرض الحكمة؟ فلا رازق سواه، ولا برهان على وجود ما سواه، ولا يعلم الغيب إلا الله. أو: من كان وجوده بالله قد غاب في نور الله، فَشَهِدَ الغيب بالله. والله تعالى أعلم.
ولما نفى عنه علم الغيب، والشعور بمآلهم، أضرب عنه، وبيّن أن ما تناهى فيه أسباب العلم به، وهو مجيء يوم القيامة، لم يحصل لهم به يقين، فضلاً عن غيره، فقال: { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ... }