قلت: قرأ الجمهور: "ادّارَكَ" بالمد، وأصله: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، ودخلت همزة وصل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: "ادّرك"، وأصله: افتعل، بمعنى تفاعل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "أدرك" أفعل.
يقول الحق جل جلاله: { بل ادّارك } أي: تدارك وتناهى وتتابع أسباب { عِلْمُهم في الآخرة } أي: بالآخرة، أو: في شأنها، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية، والحجج العقلية، على كمال قدرتنا. ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين، { بل هم في شكٍّ منها }، والمعنى: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته, بما تتابع لهم من الدلائل. زمع ذلك لم يحصل لهم شيء من علمها، بل شكّوا. أو: أدرك علمهم، بمعنى: يدركهم في الآخرة حين يرون الأمر عياناً، ولا ينفعهم ذلك. قاله ابن عباس وغيره. { بل هم } اليوم { في شكٍّ منها بل هم منها عَمُونَ } لا يُبصرون دلائلها، ولا يلتفتون إلى العمل لها. والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم، وتأكيد لجهلهم. وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، ثم بما هو اسوأ حالاً، وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذا عداه بـ "من" دون "عن"؛ لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر.
ووجه اتصال مضمون هذه الآية – وهو وصف المشركين – بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء بذلك: هو أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، وكان هذا بياناً لعجزهم، ووصفاً لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه – وهو وقت بعثهم، ومجازاتهم على أعمالهم: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه، لا محالة. هـ. قاله النسفي.
{ وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرَجُونَ } أي: أنُخرج من القبور أحياء إذا صرنا تراباً وآباؤنا. وتكرير الاستفهام في "أئذا" و"أَئِنا" في قراءة عاصم، وحمزة؛ وخلف، إنكار بعد إنكار، وجحود بعد جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل في (إذا): مادلّ عليه { لمخرجون } وهو: نُخرج، لا مخرجون، لموانع كثيرة. والضمير في "أئنا" لهم ولآبائهم.
{ لقد وُعِدْنَا هذا } البعث { نحن وآباؤنا من قبلُ }؛ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قدّم هنا "هذا" على "نحن" وفي المؤمنون قدّم "نحن"؛ ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمَّ المبعوث؛ لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيراً، فاعتنى به بخلاف "ثم". ثم قالوا: { إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولينَ }: ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا، ورب الكعبة.
الإشارة: العلم بالآخرة يَقْوى بقوة العلم بالله، فكلما قوي اليقين في جانب الله قوي اليقين في جانب ما وعد الله به؛ من الأمور الغيبية، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نُصب أعينهم، واقعة في نظرهم؛ لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين "قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حقيقة إيمانك؟ فقال: يا رسول الله؛ عزَفَتُ الدنيا من قلبي، فاستوى عندي وذهبها ومدرها. ثم قال: وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وأهل النار يتعاوون فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم: قد عرفت فالزمْ، عبدٌ نوّر الله قلبَه" . اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.
ثم أمرهم بالاعتبار بمن قبلهم، فقال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَاْنظُرُواْ... }