التفاسير

< >
عرض

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١١
-القصص

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { وأصبح } أي: صار: { فؤادُ أُمّ موسى فارِغاً } من كل شيء إلا مِن ذكر موسى وهمه، أو: فارغاً: خالياً من العقل؛ لِمَا دهمها من الجَزَع والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، ويؤيده قراءة ابن محيصن: "فزعاً"؛ بالزاي بلا ألف، أو: فارغاً من الوحي الذي أوحي إليها أن تلقيه في اليم، ناسياً للعهد أن يرده إليها، لما دَهَمَهما من الوجد، وقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهتِ أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنتِ. وبلغها أنه وقع في يد فرعون، فعظم البلاء، { إن كادتْ لتُبدِي به }: لتبوح به وتظهر شأنه وأنه وَلدها.
قيل: لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت؛ كادت تصيح وتقول: يا ابناه، وقيل: لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله، فكادت تقول: يا ابناه؛ شفقة عليه. و "أن" مخففة، أي: إنها كادت لتظهره { لولا أن ربطنا على قلبها }. والربط: تقويته؛ بإلهام الصبر والتثبيت، { لتكون من المؤمنين }: من المصدقين بوعدنا، وهو: { إنا رادوه إليك }. وجواب "لولا": محذوف، أي: لأبْدته، أو: فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون تبناه، إن كادت لتُبدي بأنه ولدها؛ لأنها لم تملك نفسها؛ فرحاً وسروراً مما سمعت، لولا أن ربطنا على قلبها وثبتناه؛ لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن: أمرتُ أُم موسى بشيئين، وبُشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل، حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها.
{ وقال لأخته } مريم: { قُصّيهِ }: اتبعي أثره؛ لتعلمي خبره، { فَبَصُرَت به } أي: أبصرته { عن جُنُبٍ }؛ عن بُعدٍ. قال قتادة: جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده, { وهم لا يشعرون } أنها أخته, وأنها تقصه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد, الطالب لمولاه, أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه, فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب, ويُدخله مع الأحباب, فعلامة المحبة: جمع الهموم في هَم واحد, وهو حب الحبيب, ومشاهدة القريب المجيب, كما قال الشاعر:

كَانَتْ لقَلْبيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ فَاسْتَجْمَعَتْ, مُذَ رَأَتْكَ الْعَيْنُ, أَهْوَائِي
فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ وَصِرْتُ مَوْلى الورى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دنياهم ودينَهُمُ شُغْلاً بِذِكْرِكَ يا دِينِي ودُنْيائِي

فَرِّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار: جمع غَيْرٍ, وهو ما سوى الله, فإن تلاشى الغير عن عين العبد؛ شهد مولاه في غيب ملكوته, وأسرار جبروته, وفي ذلك يقول القائل:

إِنْ تَلاَشَى الكَوْنَ عَنْ عَيْنِ قَلْبي شَاهَدَ السِّرُّ غَيْبَهُ في بيَانِ
فَاطْرَح الكَوْنَ عَنْ عِيَانِكَ, وَامْحُ نُقْطَةَ الْغَيْنِ إِنْ أَرَدْت تَرَانِي

فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به, ويبوح بسره؛ فرحاً واغتباطاً به, لولا أن الله يربط على قلبه, ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به, وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة, وبالله التوفيق.
ثم ذكر رجوع موسى إلى أمه، فقال: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن... }