التفاسير

< >
عرض

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
١٢
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣
-القصص

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: المراضع: جمع مُرضِع،، وهي المرأة التي ترضع، أو: مَرْضَع - بالفتح -: موضع الرضاع، وهو الثدي. و(لا تحزن): معطوف على (تَقَرَ).
يقول الحق جل جلاله: { وحرّمنا عليه المراضِعَ } أي: تحريم منع، لا تحريم شرع، أي: منعناه أن يرضع ثَدْياً غَيْرَ ثدي أمه. وكان لايقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك. { من قبلُ } أي: من قبل قَصَصِها أثره، أو: من قبل أن نرده إلى أمه. { فقالت } أخته. وقد دخلت داره بين المراضع، ورأته لا يقبل ثدياً: { هل أدُلكم }؛ أرشدكم { على أهل بيتٍ يكفلونه }؛ يحفظون موسى { لكم وهم له ناصحون }؛ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. والنصح: إخلاص العمل من شائبة الفساد. رُوي أنها لما قالت: { وهم له ناصحون }؛ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام، فهو الذي نحذر، فقالت: إنما أردتُ: وهُمْ للملك ناصحون.
فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يُعلله؛ شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنتِ منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، لا أُوتَى بصبي إلا قَبِلَني. فدفعه إليها، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل: ديناراً في اليوم، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله لها وعده في الرد، فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً. وذلك قوله تعالى: { فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها } بولدها، { ولا تحزن } لفراقه، { ولِتَعْلَمَ أن وعْدَ الله حقٌ }، أي: وليثبت علمها؛ مشاهدة، كما ثبت؛ علماً.
وأما جزعها وحيرتها؛ فذلك من الطبع البشري الجِبِلِّيِّ، اللازم لضعف البشرية، لا ينجو منه إلا خواص الخواص، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار في اليوم، كما قال السدي: لأنه مال حربي، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
{ ولكن أكثرهم } أي: القبط، أو الناس جملة، { لا يعلمون } أن ما وعد الله لا بد من إنجازه، ولو بعد حين، وهو داخل تحت علمها، أي: لتعلم أن وعد الله حق، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها؛ حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون، فجزعت، وهذا من الطبع البشري كما تقدم. وأيضاً يجوز أن يكون الوعد منوطاً بشروط وأسباب، قد لا تعرفها، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وحرمنا على الإنسان المراضع، من لبان الخمرة الأزلية، من قبل أن نلقيه بأهلها، فقالت له العناية السابقة: هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية، والهفوات القلبية، وهي الإصرار على المساوئ والذنوب، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون. يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره؛ فإن من دلك على الله فقد نصحك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه، وهي الحضرة القدسية، التي خرج منها، بمتابعة شهوته وغفلته، كي تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها، ولا تحزن على فوات شيء، إذ لَم تفقد شيئاً، حيث وجدت الله تعالى؛ "مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟ وما الذي وَجَدَ من فَقَدَكَ؟". ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون
ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر، فقال: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ... }