التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١٩
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
-العنكبوت

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: يقال: بدأ الله الخلق، وأبداه: بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله: (يُعيده): عطف على الجلمة، لا على (يبدئ)؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها، لعدم النظر. وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون (ثم يعيده): عطفاً على (يبدئ).
يقول الحق جل جلاله: { أَوَلَم يروا } أي: كفار قريش { كيف يُبدىءُ اللهُ الخلقَ } أي: يظهره من العدم، أي: قد رأوا ذلك وعلموه، { ثم يُعيده } بالبعث؛ للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري: الذي دَاخَلَهم في الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق. هـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف "يعيد" على "يبدئ". { إن ذلك على الله يسيرٌ } أي: الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
{ قُلْ سيروا في الأرض } أي: قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره: وأوحينا إليه أن قل: سيروا في الأرض، { فانظروا كيف بدأَ الخلقَ } على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم وألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، تفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله: { ثم الله ينشىءُ النشأةَ الآخرةَ } أي: البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان: نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه؛ لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة, فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ الأولى هو الذي يُنشىء النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قال النسفي.
{ إن الله على كل شيءٍ قديرٌ }؛ فلا يعجزه شيء. { يُعذِّب من يشاء } بعدله { ويرحم من يشاء } بفضله، أو: يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو: يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو: يُعذب بالتدبير والاختيار ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو: يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم بالإقبال عليه، أو: بالاستتار والتجلي، أو: بالقبض والبسط، أو بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك. { وإليه تقلبون }؛ تُردون للحساب والعقاب.
{ وما أنتم بمعجزين } أي: بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، { في الأرض } الفسيحة، { ولا في السماء } التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها. { وما لكم من دون الله من وليٍّ } يتولى أموركم، { ولا نصير }؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. { والذين كفروا بآيات الله }؛ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، { ولقائه }؛ وكفروا بلقائه، { أولئك يئِسُوا من رحمتي }؛ جنتي، { وأولئك لهم عذابٌ أليم } موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: أَوَلَمْ ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشأها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل شيء ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب قوم إبراهيم، فقال: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ... }