البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ} أي: الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، {ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين}: جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأن قائلاً قال: لِمَ كانت فاحشة؟ فقال: لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. {أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ} اي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، {وتأتون في ناديكم}؛ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال للمجلس: ناد، إلا ما دام فيه أهله، {المنكرَ} فعلهم الفاحشة بالرجال، أو المضارطة، أو: السباب والفحش في المزاح، أو الحذف بالحصى، أو: مضغ العلك، أو الفرقعة.
وعن أم هانىء - رضي اله عنها - أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وتأتون في ناديكم المنكر}؟ فقال: "كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم" . وقال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه؛ كان أَوْلَى به" .
{فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين } فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، {قال ربِّ انصرني} بإنزال العذاب {على القوم المفسدين} بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم.
وصفهم بذلك؛ مبالغة استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب,
{ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى}، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم؛ بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي: مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، {قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية}؛ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم، قاله النسفي. {إن أهلها كانوا ظالمين}، تعليل للإهلاك، أي: إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. {قال} إبراهيم: {إن فيها لوطاً} أي: أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو: وفيهم نبي بين أظهرهم؟ {قالوا} أي: الملائكة: {نحن أعلمُ} منك {بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}؛ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال: {ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم} أي: ساءه مجيئُهم وغمه, مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و "أن": صلة؛ لتأكيد الفعلين, وترتيب أحدهما على الآخر, كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان, كأنه قيل: لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب. {وضاق بهم ذَرْعاً} أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه: إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
{وقالوا}، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف: {لا تخفْ ولا تحزنْ} على تمكنهم منا، {إنا منجُّوكَ وأهلَكَ} أي: وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و"أهلك": نصب بفعل محذوف، {إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين}. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود، أي: لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت؛ فإنا منجوك... إلخ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر: إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا: {إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً}؛ عذاباً {من السماء بما كانوا يَفْسُقُون}؛ بسبب فسقهم.
{ولقد تركنا منها}؛ من القرية {آية بينةً} هي حكايتها الشائعة، أوآثار منازلهم الخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل: الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية {لقومٍ يعقلون}؛ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} قال القشيري: من جملة المنكر: تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك: ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. هـ. وقال في قوله تعالى: {إن فيها لوطاً}، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط, تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا: {لننجينه...} إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم - مع وفْر علمه - يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر هـ.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى: { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ } [المائدة: 17] الآية. هـ. قلت: ظاهر قوله تعالى: { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 74]؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط؛ لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى: { { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [هود: 75]... حتى قال له تعالى: { يَـٰإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } [هود: 76] لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله.
ثم ذكر قصة شعيب، فقال: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ...}