التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
١٥
ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٦
ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ
١٧
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { للذين }: خبر، و { جنات }: مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان: الضم والكسر، كالعدوان والطغيان، و { الذين يقولون }: بدل من { الذين اتقوا }، أو خبر عن مضمر، أو منصوب على المدح، أو بدل من العباد، و { الصابرين } وما بعده: نعت الموصول.
يقول الحق جلّ جلاله: { قل } يا محمد: أأخبركم { بخير } من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو { جنات تجري من } تحت قصورها الأنهار؛ من الماء واللبن والعسل والخمر، { خالدين فيها }، لا كنعيم الدنيا الفاني، { ولهم فيها أزواج } من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، { ورضوان من الله } الذي هو { أكبر } النعم.
فانظر: كيف ذكر الحقّ - جلّ جلاله - أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه: متاع الدنيا الذي زُين للناس، وأوسطه: نعيم الجنان، وأعلاه: رضي الرحمن، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:
"يَقُولُ الله تعالى لأهِلْ الْجنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقول أهْلَ الجَنَّةِ: لَبْيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكِ، والخير في يديك، فيقول: هَلْ رضِيتُم؟ فَيَقُولُونَ: مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك؟ فيقُولون: يا ربنا، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رَضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً" .
{ والله بصير بالعباد }؛ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو: { بصير } بأحوال المتقين.
{ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار }. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها.
ثم وصف المتقين بقوله: { الصابرين } على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، { والصادقين } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، { والقانتين } أي: المطيعين، { والمنفقين } أموالهم في سبيل الله، { والمستغفرين بالأسحار }؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، وَلاَ سيما للمتهجدين.
قيل: إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله تعالى يقول: إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب" .
وقال سفيان: إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. قال: وبلَغنا أنه إذا كان أولا لليل، نادى مناد: ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ: أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى منادٍ: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم.
الإشارة: للذين اتقوا شهودَ السّوى عند ربهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وأصناف الحكم، مطهرة من العلل، منزهة من الخلل، تهب عليهم نسيم الرضوان، تحمل الرَّوُحَ والريحان، مخلدون في نعيم الشهود والعيان، والله بصير بعباده المخلصين، المنزَّهين من العيوب، المبررَّئين من درن الذنوب، الصابرين على دوام المجاهدة، والصادقين في طلب المشاهدة، والقانتين لأحكام العبودية، والمنفقين أنفسَهُمْ ومُهَجَهم في طلب مشاهدة أنوار الربوبية، والمستغفرين من شهود الأغيار، وخصوصاً إذا هبّ نسيم الأسحار، فإن كثيراً من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار، وهي أسرار التوحيد.