التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ
٤١
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { هنالك }: اسم إِشارة للبعيد، والكاف: حرف خطاب، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب. والمحراب: مفعال، من الحرب، وهو الموضع المعد للعبادة، كالمسجد ونحوه، سمي به، لأنه محل محاربة الشيطان.
{ والملائكة }: جمع تكسير، يجوز في فعله التذكير والتأنيث، وهو أحسن، تقول: قام الرجال وقامت الرجال، فمن قرأ: { فنادته الملائكة }، فعلى تأويل الجماعة، ومن قرأ: { فناداه }، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث، ردّاً على الكفار. والمراد هنا: جبريل عليه السلام كقوله:
{ يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ } [النّحل: 2]، { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } [آل عِمرَان: 42]، و { بشر }: فيها لغتان: التخفيف، وهي لغة تهامة، تقول: بَشَرَ يَبْشُر - بضم الشين في المضارع، والتشديد، وهو أفصح، تقول بَشْر يُبَشّر تبشيراً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: مخبراً عن زكريا عليه السلام: { هنالك } أي: في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم، { دعا زكريا ربه }، فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وقال في مناجاته: { ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة }، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر، { إنك سميع الدعاء } أي: مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب، { فنادته الملائكة }، وهو جبريل، لأنه رئيس الملائكة، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع؛ إذ لا يخلو من أصحاب، { وهو قائم يصلي في المحراب } رُوِيَ: أنه كان قائماً يصلّي في محرابه، فدخل عليه شاب، عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وقال له: { إن الله يبشرك بيحيى }، سمي به؛ لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته، فلم يهم بمعصية قط، أو لأنه استشهد، والشهداء أحياء.
{ مصدقاً بكلمة من الله } وهو عيسى، لأنه كان بكلمة: كُنْ، من غير سبب عادي، و { سيداً } أي: يسود قومه يوفُوقهم، و { حصوراً }، أي: مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي. رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت، أو عِنِّيناً، رُوِيَ: "أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة" رواه ابن عباس. وقال في الأساس: (رجل حصور: لا يرغب في النساء). قيل: كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي: الحصور: الذي يملك ولا يُملك. وقال القشيري: { حصوراً }: أي: مُعْتَقاً من الشهوات، مَكْفِيّاً أحكام البشرية، مع كونه من جملة البشر، { ونبيّاً من الصالحين } الذي صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة.
ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال: يا { رب أنى يكون لي غلام } أي: من أين يكون لي غلام؟! قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه. هل مع كبر السن والعقم، أو مع زوالهما. { وقد بلغني الكبر }، وكان له تسع وتسعون سنة، وقيل: مائة وعشرون، { وامرأتي عاقر } لا تلد، ولم يقل: عاقرة، لأنه وصف خاص بالنساء. قال له جبريل: { كذلك الله يفعل ما يشاء } من العجائب والخوارق، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني، أو الأمر كذلك، أي: كما أخبرتك، ثم استأنف: { الله يفعل ما يشاء }.
ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ، فقال: { رب اجعل لي آية } أعرف بها حمل المرأة، لاستقبله بالبشاشة والشكر، { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي: لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر، ليخلص المدة للذكر والشكر، { إلا رمزاً } بيدٍ أورأس أو حاجب أو عين. { واذكر ربك كثيراً } في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام. وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. { وسبّح بالعشي } أي: من الزوال إلى الغروب، أو من العصر إلى جزء الليل، { والإِبكار }؛ من الفجر إلى الضحى، وقيل: كانت صلاتهم ركعتين في الفجر وركعتين في المغرب، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية الأخرى:
{ فَأْوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية، منها ما تكون عقيمة مع كمالها، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام: طلب الولد؛ إذا خاف الولي اندراس علمه أو حاله بانقطاع نَسْله الروحاني، ولا شك في فضل بقاء النسل الحسيّ أو المعنوي، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عمله إلا مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به" . وشمل الولد البشري والروحاني، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا عليّ - كَرّم الله وجهه -: "لأنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْر النَعَمِ" .
وقال بعض الشعراء:

وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد

وقد سلَك هذا المسلك القطبُ بن مشيش في طلب الولد الروحاني، حيث قال في تَصْلِيَته المشهورة: (اسمه ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا). فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلي. وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة، ونارى نداءً خفيّاً في صلاة الفكر، فأجابته الهواتف في الحال، بلسان الحال أو المقال: إن الله يبشرك بمن يحيي علمك ويرث حالك، مصدقاً بكلمة من الله، وهم أولياء الله، وسيداً وحصوراً عن شواغل الحس، مستغرقاً في مشاهدة القرب والأنس، ينبئ بعلم الغيوب، ويصلح خلل القلوب، فإذا استعظم ذلك واستغربه، قيل له: الأمر كذلك، (الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)، فحسبك الاشتغال بذكر الله، والغيبة عما سواه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.