التفاسير

< >
عرض

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { إن مثل عيسى عند الله } أي: إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب { كمثل آدم }. ثم فسر شأن آدم فقال: { خلقه من تراب } أي: خلق قالبه من تراب، { ثم } نفخ فيه الروح، و { قال له كن فيكون } أي: فكان، فشأنه أغرب من شأن عيسى، لأنه وجد من غير أب ولا أم، بخلاف عيسى عليه السلام، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع الله على قلبه، فاستعجز القدرة الإلهية، { وكان الله على كل شيء مقتدراً }. هذا هو { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } أي: الشاكين في مخلوقيته، وهذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، على طريق التهييج لغيره، أو لكل سامع.
وسبب نزول الآية: أنَّ وفد نجران قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا، فتقول: إنه عبد؟ قال: أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } . أي: فهو أعجب من عيسى، لكونه بلا واسطة أصلاً. رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشر سنة، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين.
قال عليه الصلاة والسلام:
"أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وليسلكن الروحاء حاجّاً أو معتمراً، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً، ويقاتل الناس على الإسلام، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة، الكذاب الدجال، وتقع في الأرض الأمنة، حتى ترتع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى.، ويصلي المسلمون عليه" . ويدفنونه في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: اعلم أن الحق - جلّ جلاله - أظهر هذا الآدمي في شكل غريب، وسر عجيب، جمع فيه بين الضدين، وأودع فيه سر الكونين، نوراني ظلماني، روحاني جسماني، سماوي أرضي، ملكوتي ملكي، معنوي حسيّ، أودع فيه الروح نورانية لاهوتية في نطفة ناسوتية، فوقع التنازع بين الضدين، فالروح تحن إلى وطنها اللاهوتي، والنطفة الطينية تحن إلى وطنها الناسوتي، فمن غلب روحانيته على طينته التحق بالروحانيين،وكان من المقربين في أعلى عليين، فصارت همته منصرفة إلى طاعة مولاه، والارتقاء إلى مشاهدة نوره وسناه، فانياً عن حظوظه وهواه، من غلبت طينته على روحانيته التحق بالبهائم أو الشياطين، وانحط إلى أسفل سافلين، وكانت همته منصرفة إلى حظوظة وهواه، غائباً عن ذكر مولاه، قد اتخذ إلهه هواه.
وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية، كيف غلبت روحانيته، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار، فانية في محبة الواحد القهار، حتى لحقت بوطنها، ورجعت إلى أصلها، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح المقام، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال. والله - تعالى - أعلم.