التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٨
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
٤٩
فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٥٠
-الروم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { اللهُ الذي يُرسل الرياحَ } الأربع. وقرأ المكي: بالإفراد. { فتُثير } أي: تزعج { سحاباً فيبسُطُه في السماء } أي: يجعله منبسطاً، متصلاً بعضه ببعض في سَمت السماء، كقوله: { { وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [إبراهيم: 24]، أي: جهته. فيبسطها في الجو { كيف يشاء }؛ سائراً أو واقفاً، مطبقاً وغير مطبق. من ناحية الشمال أو الجنوب، أو الدََّبُورِ، أو الصَّبَا، { ويجعله كِسَفا } أي: قطعاً متفرقة. والحاصل: أنه تارة يبسطه متصلاً مطبقاً، وتارة يجعله قطعاً متفرقة، على مشيئته وحكمته. { فترى الوَدْقَ } ؛ المطر { يَخْرجُ من خِلاله }؛ وسطه.
{ فإِذا أصاب به }؛ بالودق { من يشاء من عباده }، يريد إِصابةَ بلادهم وأراضيهم, { إذا هم يستبشرون }؛ يفرحون بالخصب، { وإن كانوا من قبل أن يُنَزَّل عليهم } المطر { من قبله لمُبلسينَ }؛ آيسين، وكرر "من قبله"؛ للتوكيد، وفائدته: الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار، أو: على أن عهدهم بالمطر قد تطاول؛ فاستحكم يأسُهُم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
{ فانظرْ إلى آثار رحمةِ الله } أي: المطر { كيف يُحيي الأرضَ } بالنبات وأنواع الثمار { بعد موتها }؛ يبسها { إن ذلك } أي: القادر عليه { لمحيي الموتى }؛ فكما أحيا الأرض بعد يبسها, يحيي الأجساد بعد رميمها، { وهو على كل شيءٍ قدير }, وهذا من جمل مقدوراته تعالى.
الإشارة: الله الذي يرسل رياح الواردات الإلهية، فتنزعج سحاب الآثارعن عين الذات العلية، فتبقى شمس العرفان، ليس دونها سحاب، فيبسطه في سماء القلوب كيف يشاء، فيقع الاحتجاب لبعضها، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور، ويجعله كسفاً لأهل الاستشراف، فتارة ينجلي عنهم سحاب الآثار، فيشاهدون الأنوار، وتارة تغطيهم سُحب الآثار، فيشاهدون الأغيار، فترى مَطَرَ خَمْرَةِ الفناءِ تخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين، آيسين، حين كانت نفوسهم غالبةً عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكاً ثم سقط على شيخ ذي خمرة أزلية، فسقاه حتى حَيِيَ بمعرفة الله.
قال القشيري: الله الذي يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه، مبشراتٍ بجوده ووَصْله، ثم يُمْطِر جودَ غيثِه على أسراره، ويطوي بساطَ الحشمة عن مناجاة قُرْبِه، وبضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهار أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شراب حُبِّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم؛ أصحاهم، لا بهم، ولكنْ بِنَفْسه. والعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات، دونه، طُمْسٌ.
وقال في قوله تعالى: { فانظر إلى آثار رحمة الله... } الآية: يحيي الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجيء أمطارها، ليُخرجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحي النفوس بعد تَفْرِيقها، ويوفقه للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم, وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم, وتحيي القلوبُ, بعد غفلتها, بأنواع المحاضرات, فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة, ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العصر من أهل الإرادات, ويحيي الأرواح بعد حجْبتَها بأنوار المشاهدات, فتطلع شموسُها من بُرْجِ السعادة, ويتصل, بمشامِّ أسرار الكافة نسيمُ ما يُفيض عليهم من الزيادات, فلا يبقى صاحبُ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب, ويُحْيي الأسرارَ بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وَقْفَةٌ في بعض الحالات, فتنتفي, بالكلية, آثارُ الغَيْرِيَّةِ, ولا يَبْقَى في الديار ديَّار, ولا من سكانها آثار, وسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق؛ هنالك الولاية لله الحق.. انتهى المراد منه مع زيادة بيان.
ثم ذكر الجوائح، وما ينشأ من أهل الغفلة عند ظهورها، فقال: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ... }