التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٩
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٣٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٣١
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
٣٢
-لقمان

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { ألم تَرَ أن الله يُولج الليلَ في النهارِ }؛ يُدخل ظلمة الليل في ضوء النهار، إذا أقبل الليل، { ويُولج النهارَ في الليل }؛ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار. أو: بإدخال جزء أحدهما في الآخر؛ بزيادة الليل أو النهار. { وسخَّر الشمسَ والقمرَ } لمنافع العباد، { كلٌّ }، أي: كل واحد من الشمس والقمر { يجري } في فلكه، ويقطعه، { إلى أجل مُسَمّى }؛ إلى يوم القيامة: أو: إلى وقت معلوم للشمس، وهو تمام السنة، والقمر إلى آخر الشهر. { وإن الله بما تعملون خبير }؛ عالم بكنهه، لا يخفى عليه شيء. فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته جميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته.
{ ذلك } شاهد { بأن الله هو الحقُّ }، وما سواه باطل، { وأن ما تدعون من دونه الباطل }؛ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده. أو: ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، { وأن الله هو العلي الكبير }، أي: العلي الشأن، الكبير السلطان.
{ ألم تَرَ أن الفلكَ }؛ السفن { تجري في البحر بنعمةِ الله } بإحسانه ورحمته، أو: بالريح، لأن الريح من نعم الله. أو: ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه. { ليُريَكم من آياته }؛ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، { إن في ذلك لآياتٍ } دالة على وحدانيته وكمال صفاته؛ { لكل صبَّارٍ } في بلائه، { شكورٍ } لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان، نصف شكر ونصب صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
{ وإِذا غَشِيَهُم }، أي: الكفار، أي: علاهم وغطاهم { موجٌ كالظُّلَلِ }، أي: كشيء يظل؛ من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل؛ جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك؛ { دَعَوُاْ الله مخلصين له الدينَ }، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ }؛ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو: متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار. ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان. أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني: أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، { وما يجحد بآياتنا } أي: بحقيقتها { إلا كل ختَّارٍ }؛ غدار. والختْر: أقبح الغدر، { كفورٍ } لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة؛ لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ: مقابل صبّار، وكفور: مقابل شكور؛ لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما؛ زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض: الصبر والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط: الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
وإذا غشيهم،، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجأوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد؛ معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: { وإذا غشيهم موج كالظلل }؛ إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحارالتقدير، تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.

فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا،أَحِبَّاءَنَا: كَمْ تَجْهَلُونَ وَنَحْلُمُ!

ثم ختم بالوعظ والتذكير، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ... }.