يقول الحق جل جلاله: { قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم }؛ بقبض أرواحكم فتموتون،، { ثم إلى ربكم تُرجعون }؛ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي: استيفاء الروح، أي: أخذها، من قولك: توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد: زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت "عزرائيل" وله أربعة أجنحة: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل: أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين - وفي حديث آخر، خمس مرات، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله؛ ضربه بتلك الحربة. وقال: الآن يُزار بك عسكر الأموات.
فإن قيل: ما الجمع بين قوله: { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام: 61] و { تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [النساء: 97] و { قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ } وقوله: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [الزمر: 42]؟ فالجواب: أن توفي الملائكة، القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين، وقبض الحق تعالى: خَلْقُ الموتِ فيه: والحاصل: أنَّ قبض الملك: المباشرة، وقبض الحق: الإخراجُ؛ حقيقةً.
قال الورتجبي: قال الحسن: ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي: لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة: كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة؛ كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة: أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها, وهو أعم من كونها تُبعث, أو: لا؛ بأن تعاد عن عدم, بخلاف المكلف, فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فالأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة.
{ ولو ترى } يا محمد { إذِ المجرمون } وهو الذين قالوا: { أئذا ضللنا في الأرض... } إلخ، و"لو" و"إذ" للماضي، وإنما جاز هنا؛ لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع، و"ترى" هنا، تامة لا مفعول لها، أي: لو وقعت منك رؤيةٌ { إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم } أي: وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، { عند ربهم }؛ عند حساب ربهم، قائلين: { ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا } أي: صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَا به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، { فارجعنا } إلى الدنيا { نعملْ صالحاً } من الإيمان والطاعة، { إِنا موقنون } بالبعث والحساب الآن. وجواب "لو": محذوف، أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
{ ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها } أي: ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي: لو شئنا لأعطيناه في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة؛ فإن عندهم: قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد. قال تعالى: { ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين }، أي: ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس: إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن.
{ فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي: باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به. { إِنا نَسيناكم }: تركناكم في العذاب، { وذوقوا عذابَ الخُلْدَ } أي: العذاب الدائم الذي لا انقطاع له { بما كنتم تعملون } من الكفر والمعاصي.
ثم ذكر ضدهم بقوله: { إنما يُؤمن بآياتنا }؛ القرآن { الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً }؛ سجدوا لله؛ تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، { وسبَّحوا بحمد ربهم } أي: نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه؛ حامدين له، { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين.
الإشارة: أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم - أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به, فلا يعدوا عليها الثرى, حتى يُبعثوا بها, مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر؛ "من واظب على قراءة آية الكرسي، دُبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام" . يعني: من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلٌّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. هـ. وقال في قوله: { ولو ترى إذ المجرمون.... } الآية: مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف. هـ.
قوله تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها.. }. قال القشيري: لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل؛ لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال: من يتسلَّطْ عليه من يحبه؛ لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله؟ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها؟ وأنشدوا:
شكا إليك ما وَجَدْ من خَانَهُ فيك الجَلَدْ
حيرانُ، لو شئتَ، اهتدى ظمآنُ، لو شئتَ، وَرَدْ. هـ.
قوله تعالى: { إنما يؤمن... } الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الخضوع وما أكرمهم به، فقال: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ... }