يقول الحق جل جلاله: { تتجافى } أي ترتفع وتتنحى { جُنُوبهم عن المضاجع }؛ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو أن أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال: ( { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } )، { يَدْعُونَ } أي: داعين { ربَّهم خوفاً }، أي: لأجل خوفهم من سخطه { وطمعاً } في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: "هو قيامُ العبد من الليل". وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم. وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "من عَقَب - أي: أحيا - ما بين المغرب والعشاء؛ بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يُرد: الدعاء بين المغرب والعشاء" . هـ. وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
{ ومما رزقناهم ينفقون } في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. { فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين } أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: "أَخْفَى"؛ على المضارع. { جزاء بما كانوا يعملون }، وعن الحسن: في القوم أعمالهم في الدنيا؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل؛ ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.
وفي حديث أسماء، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل. ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس" . وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله - عز وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة: واقرؤوا، إن شئتم: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }.
وقال في "البدور السافرة": أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ" . هـ. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية: دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة: دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى" . هـ.
وقيل: المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. قلت: قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفعُ الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة: قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم؛ من نعيم القصور، والحور، والولدان، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهؤلاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية، سرية؛ خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود، وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد: (تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة). هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من ألف سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجّه
أي: سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد: عبادة العارفين تاج على الرؤوس. هـ. وفي مثل هؤلاء ورد الخبر: "إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء: يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قِبل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم" . فذلك قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون". هـ.
قال القشيري: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن: بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام؛ لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٌّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى: { { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [القصص:73] يعني: عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى: { { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ:11].. انظر بقية كلامه.
ثم بيّن أن من كان في نور الطاعة والاحسان ليس كمن كان في ظلمة الكفر والعصيان، فقال: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن... }