التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ
٧
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٨
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٩
وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
١٠
-السجدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (الذي): صفة للعزيز، أو: خبر عن مضمر. ومن قرأ { خَلَقَهُ }؛ بالفتح؛ فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ، فبدل منه، أي: أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته: { الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه } أي: أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو: أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم { بدأ خَلْقَ الإنسان }؛ آدم { من طين ثم جعل نسله }؛ ذريته { من سلالةٍ } أي: نطفة مسلولة من سائر البدن، { من ماءٍ } أي: مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، { مِّهِينٍ }؛ ضعيف حقير. { ثم سوّاه } أي: سوّى صورته في أحسن تقويم، { ونفخ فيه من روحه }، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل: من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه. { وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة } لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. { قليلاً ما تشكرون } أي: تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم؛ لقلة التدبر فيها.
{ وقالوا }؛ منكرين للبعث: { أئذا ضللنا في الأرض }، أي: صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال: ضَلَلَ؛ كضرب، وضِلل؛ كفرح. وانتصب الظرف في (أإذا) بقوله: { أئنا لفي خلق جديد }. أي: أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض؟ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم؛ لرضاهم بذلك، { بل هم بلقاء ربهم كافرون }؛ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي: أي: ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أظهر الحق تعالى: من تجلياته الكونية؛ فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية:

وَكُلُّ قَبِيح، إنْ نَسَبْتَ لحُسْنِهأَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالُهُفَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ، وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

وأكملُها وأعظمُها: خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه؛ من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي: ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان؛ غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل:

وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ، ولكن عليك، من الورى، وقع اختياري

قال الواسطي: الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله: { ثم سواه... }: قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب - بعد أن قال الورتجبي -: أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله: { ونفخ فيه من روحه }. هـ.
ثم ذكر أمر اللقاء الذي أنكروه فقال: { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ... }