التفاسير

< >
عرض

قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٨
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٩
-الأحزاب

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم } أي: يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، { والقائلين لإخوانهم } في الظاهر؛ من ساكني المدينة من المسلمين: { هَلُمَّ إلينا }؛ تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في "هلم": أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال.. وهكذا. { ولا يأتون البأسَ }؛ الحرب { إلا قليلاً }؛ إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً، رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون. { أشِحَّةٌ عليكم }؛ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير { يأتون } أي: لا يأتون الحرب؛ بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو: في الظفر والغنيمة، أي: عند الظفر وقَسْم الغنيمة. { فإذا جاء الخوفُ } من قِبَلَ العدو، أو: منه صلى الله عليه وسلم، { رأيتهم ينظرون إليك }؛ في تلك الحالة، { تدور أعينُهم } يميناً وشمالاً { كالذي يُغْشى عليه من الموت }؛ كما ينظر المغشي عليه معالجة سكرات الموت؛ حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
{ فإذا ذهبَ الخوفُ } أي: زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم { سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ }؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال: خطيب سِلق: فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق: مبالغ في الكلام. يعني: بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون: أعطنا؛ فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. { أشِحَّةً على الخير } أي: خاطبوكم؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، { أولئك لم يؤمنوا } في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، { فأحبط اللهُ أعمالهم }؛ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، { وكان ذلك } الإحباط { على الله يسيراً }؛ هيناً.
الإشارة: هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو: أرادوا الخروج عن دنياهم، عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا تواجهوا في سفر لشُقة بعيدة؛ ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق: هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل؛ بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز؛ سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا: إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم تمم وصفهم فقال: { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ... }