التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
-الأحزاب

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { ما جعل اللهُ لرجلِ من قلبين في جوفه }؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو: يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو: يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله؛ أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا، أدبر عن الله. قيل: الآية مثل المنافقين، أي: إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل: لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية: يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها: أن العرب كانت تقول: الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك.. الخ كلامه.
قال النسفي: والمعنى: أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ، غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانّاً، موقناً شاكّاً في حالة واحدة. هـ.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها: أُمًّا، فردّ ذلك بقوله: { وما جعل أزواجَكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتِكم } أي: ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة؛ لتضاد أحكامهما؛ لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله: { وما جعل أدعياكم أبناءكم } أي: لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه؛ لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلاً وغير أصيل.
ونزل هذا في "زيد بن حارثة"، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زينب؛ وكانت تحت زيد - على ما يأتي - قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه. وقيل: كان "أبو مَعْمَر" أحفظ العرب، فقيل: ذو القلبين، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير في رجل، وإدخال "مِن" الاستغراقية على "قلبين"، وذكر الجوف للتأكيد. و"اللائي": جمع "التي". وفيها قراءات: "اللاء"؛ بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز. وأصل { تظاهرون }: تتظاهرون، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف؛ منْ: ظَاَهَر. ومعنى الظهار: أن تقول للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن؛ لتضمنه معنى التجنُّب؛ لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء: جمع دعي، فقيل: بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء: شاذ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل؛ كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء. ولا يكون في ذلك نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
{ ذلكم قولُكُم بأفواهكم }؛ إذ إن قولكم للزوجة: أُمًّا، والدعيّ: هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له، إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم. { واللهُ يقولُ الحقِّ }؛ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً { وهو يهدي السبيلَ }؛ سبيل الحق.
ثم بيّن ذلك الحَقَّ، وهدى إلى سبيله، فقال: { أدعوهم لآبائهم }؛ انسبوهم إليهم. { هو }، أي: الدعاء { أقْسَطُ }؛ أعدل { عند الله }. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل؛ ضمّه إليه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه. وكان ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان. { فإن لم تعلموا آباءهم } أي: فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم، { فإِخوانُكُم في الدين ومواليكم } أي: فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي، ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه، { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } أي: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك، مخطئين جاهلين، قبل ورود النهي، أو بعده، نسياناً. { ولكن ما تعمَّدَتْ قلوبُكم } أي: ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي. أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنيّ، على سبيل الخطأ، أو: الشفقة، ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. { وكان الله غفوراً رحيماً }؛ لا يؤاخذكم بالخطأ، ويقبل التوبة من المعتمِّد.
الإشارة: العبد إنما له قلب واحد، إذا أقبل به على مولاه؛ أدبر عن ما سواه، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، ودخل حضرة الحليم الغفار، وإذا أقبل به على الدنيا؛ أدبر عن الله، وحُشي بالأغيار والأكدار، وأظلمت عليه الأسرار، وطبع فيه صور الكائنات، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ. وكان مأوى للخواطر والوساوس، فلم يَسْوَ عند الله جناح بعوضة. قال القشيري: القلب إذا اشتغل بشيء؛ اشتغل عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ؛ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم؛ مشتغلٌ عمِّا من العدم، والليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان. هـ.
وقوله تعالى: { وما جعل أزواجكم... } الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها؛ لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا؛ في المحبة والخدمة. وقوله تعالى: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم.. }: تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ: يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله }. وقوله: { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين.. }: إخوان الدين أّوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري: وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا.

وَقَالُوا: قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ فَقُلْتُ: وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ

ثم ذكر أبوّة النبي صلى الله عليه وسلم وأمومة أزواجه لجميع أمَّته، فقال: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ... }.