التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
١٥
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
١٦
ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ
١٧
-سبأ

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لسبأ } فيه الصرف، بتأويل الحي، وعدمه، بتأويل القبيلة. و { مسكنهم }، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر، كمدخَل، ومَن كسره فلغة، والسماع في المصدر كمسجِد. و { جنتان } بدل من { آية } أو: خبر عن مضمر، أي: هي جنتان. و { أُكل خَمْطٍ }، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة، وجعله عطف بيان. أو صفة، بتأويل خمطٍ ببشيع.
يقول الحق جلّ جلاله: { لقد كان لسبأٍ } سُئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً، فقال صلى الله عليه وسلم:
" هو رجل من العرب، ولد عشرة من الولد، فتيامن ستةٌ، وتشاءم أربعةٌ: فالذين تيامنوا كثرة، فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وأنمارُ، وحميرُ، فقال رجل: مَن أنمار يا رسول الله؟ قال منهم خَثْعَمُ وبَجِيلَةُ. والذين تشاءموا: عاملة، وجذام، ولخم، وغسان"
قلت: وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف في قحطان، فقيل: هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل: هو أخو هود عليه السلام. وقيل: هو هود، بنفسه، وإن هوداً هو ابن عبدالله بن رباح، لا ابن عابر، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل: قحطان من ولد إسماعيل، فهو ابن أيمن بن قيذر بن إسماعيل. وقيل: هو ابنُ الهميسع بن أيمن. وبأيمن سميت اليمن، وقيل: لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان: عدنان وقحطان، فلا عربي في الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما، فيقال: عدناني أو قحطاني.
ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل، كما تقدّم، واختلف في خزاعة، فقيل: قحطانية، وقيل: عدنانية، وأن جدهم عمرو بن لحي، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ، نزلت يثرب، بعد سيل العرم، كما يأتي.
قال تعالى: { لقد كان لسبأٍ في مسكنهم } أي: في بلدهم، أو أرضهم، التي كانوا مقيمين فيها باليمن، { آيةٌ } دالة على وحدانيته تعالى، وباهر قدرته، وإحسانه، ووجوب شكر نعمه، وهي: { جنتانِ } أي: جماعة من البساتين، { عن يمينٍ } واديهم، { وَشِمَالٍ } وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة، كما يكون في بساتين البلاد العامرة. قيل: كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي، مسيرة أربعين يوماً، وكلها تُسقى من ذلك الوادي؛ لارتفاع سده. أو: أراد بُسْتانين، لكل رجل بستان عن يمين داره، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية: أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة، ليعتبروا ويتَعظوا، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، فلما أثمرت البساتين؛ قلنا لهم ـ على لسان الرسل المبعوثين إليهم، أو بلسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك: { كُلُوا من رزق ربكم واشكرُوا له } بالإيمان والعمل الصالح، { بلدةٌ طيبةٌ } أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، { وربُّ غفور } أي: وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره.
قال ابن عباس: كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، فتخرج المرأة على رأسها المكتل، وتسير بين تلك الشجر، فيمتلىء المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه، وعلى رأسه مكتل، أو قُفة، أو طبق فارغ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة، مما تسقطه الرياح، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها. ومن طيبها: أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حية. وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب؛ ماتت الدواب والقمل؛ لطيب هواها.
{ فأَعْرَضوا } عن الشكر، بتكذيب أنبيائهم، وكفر نعمة الله عليهم. وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة، عائذاً بالله. قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا، يدعونهم إلى الله تعالى، فكذّبوهم، { فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم } أي: سيل الأمر العرم، أي: الصعب. من: عرَم الرجل فهو عارم، وعَرِمَ: إذا شَرِسَ خُلقه وصعب، أي: أرسلنا عليهم سيلاً شديداً، مزَّق سدهم، وغرق بساتينهم. قيل: جمع عَرمة، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا السد يسقي جنتها، وبنته بلقيس؛ لأنه لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم، فنهتهم، فأبَوا، فنزلت عن ملكها، فلما كثر الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لترجعي أو لنَقتلنك، فجاءت، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم، وهو المُسنّاة ـ بلغة حِمْير ـ فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السدّ، ففتحت الباب الأعلى، وجرى ماؤه في البركة، وألقت البقر فيها، فخرج بعض البقر أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البقر في الماء، حتى خرجت جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الأسفل، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا، سلّط الله عليهم جُرذاً، يُسمى الخلد ـ وهو الفأر ـ فنقبه من أسفله، فغرَّق الماء جنتهم، وخرّب أرضهم. هـ.
قال وهب: وكانوا يزعمون أنهم يجدون في عِلْمِهم وكهانتهم أنهم يُخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا، فلما حان ما أراد الله بهم، أقبلت فأرة حمراء، إلى بعض الهِرَر، فساورتها ـ أي: حاربتها، حتى استأخرت عنها ـ أي: عن تلك الفرجة ـ الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت السد، حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل، حتى بلغ السد، فخربه، وفاض على أموالهم، فغرقتها، ودفن بيوتهم، ومُزقوا، حتى صاروا مثلاً عند العرب، فقالوا: تفرّقوا أياديَ سبأ. هـ.
{ وبدلناهم بجنتيهم } المذكورتين { جنتين } أخريَيْن. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام، كقوله:
{ { وجَزَآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]. { ذواتي أُكُل خَمْطٍ } الأُكل: الثمر المأكول، يخفف ويثقل. والخمط، قال ابن عباس: شجر الأراك، وقال أبو عبيد: كل شجر مؤذ مشوِّك. وقال الزجاج: كل شجر مُر. هـ. وفي القاموس: الخمط: الحامض المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة، وشجر كالسدر، وشجر قاتل، أو كل شجر لا شوك له. هـ. وقرأ البصريان بالإضافة، من إضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز؛ لأن المراد بالأكل المأكول، أي: ذواتي ثمر شجر بشيع. والباقون: بالتنوين، عطف بيان، أو صفة، بتأويل خمط ببشيع، أي: مأكول بشيع. { وأثْلٍ } هو شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، وأجود عوداً. { وشيءٍ من سِدْرٍ قليل } والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال: السدر، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به؛ لأنه يكون في الجنان.
{ ذلك جزيناهم بما كفروا } أي: جزيناهم ذلك بكفرهم، فذلك مفعول مطلق بجزينا، { وهل يُجازى } هذا الجزاء الكلي { إِلا الكفورُ } أي: لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها، أو: كفر بالله، أو هل يعاقب؛ لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة، وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص، وهو المعاقبة. قال الواحدي: وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت: بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم، ولا تسلب إلا للكفور، دون الشكور. قاله في الحاشية.
وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. هـ. قلت: ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام.
الإشارة: لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
قال القشيري: { وبدلناهم بجنتيهم جنتين... } الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا:

ما زلتُ أختال في زَمانيحتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه

{ ذلك جزيناهم بما كفروا... } الآية: ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.
ثم ذكر سبب تمزيقهم فقال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى... }