التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
٥
-سبأ

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { ولا أصغر } و { لا أكبر }: عطف على { مِثْقال }، أو: مبتدأ، وخبره: ما بعد الاستثناء. و { ليجزي }: متعلق بقوله: { لَتَأتينكم }، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال؛ لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به { في كتاب } أي: أحصى في كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جلّ جلاله: { وقال الذين كفروا } أي: منكرو البعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب، ووافق عليها غيره، وقد أسلم هو. قالوا: { لا تأتينَا الساعةُ } وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع. قبَّح الله رأيهم، وأخلى الأرض منهم. { قلْ } لهم: { بلى } أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى، التي للإضراب، وأوجب ما بعدها، أي: ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل، فقال: { وربي لَتأتينَّكم }.
ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله: { عالم الغيبِ }، وقرأ حمزة والكسائي: "علاّم الغيب"، بالمبالغة، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته، { لا يَعْزُبُ عنه }: لا يغيب عن علمه { مثقالُ ذرة }: مقدار أصغر نملة { في السماواتِ ولا في الأرض، ولا أصغرُ من ذلك } أي: من مثقال ذرة { ولا أكبرُ إِلا في كتاب مبين } في اللوح المحفوظ، أو في علمه القديم، وكنَّى عنه بالكتاب؛ لأن الكتاب يحصي ما فيه.
قال الغزالي، في عقيدة أهل السنة: وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويُدرك حركة الذر في جو السماء، ويعلم السر وأخفى، ويطّلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل. هـ.
ثم علل إتيان الساعة بقوله: { ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرةٌ } لِما اقترفوا من العصيان، وما قصروا فيه من مدارج الإيمان، { ورِزق كريم } لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان. { والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزين } بالإبطال وتعويق الناس عنها، { أولئك لهم عذابٌ من رِجْزٍ أليم } أي: لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع "أليم" مكي وحفص ويعقوب، نعت لعذاب، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة: الرجز: سُوء العذاب.
الإشارة: بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم فقال: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ... }