التفاسير

< >
عرض

وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ
١٩
وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ
٢٠
وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ
٢١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ
٢٢
إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ
٢٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ
٢٤
-فاطر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وما يستوي الأعمى والبصيرُ } أي: لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم. وقيل: هما مثلان للصنم والله تعالى. { ولا الظلماتُ } كالكفر والجهل، { ولا النورُ } كالإيمان والمعرفة، { ولا الظلُّ } كنعيم الجنان، { ولا الحَرورُ } كأليم النيران. والحَرور: الريح الحارّ كالسموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
{ وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ } تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل: للعلماء والجهال. وزيادة "لا" في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر. { إِن الله يُسْمِعُ من يشاء } بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. { وما أنت بمُسْمِعٍ مَن في القبور } شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل، فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذارهم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية: الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح؛ فلا نقول: إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. هـ.
ثم قال تعالى: { إِن أنت إِلا نذيرٌ } أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك.
{ إِنَّا أرسلناك بالحق } أي: محقاً، أو: محقين: أو: إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، { بشيراً } لمَن آمن { ونذيراً } لمَن كفر، { وإِن من أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ } أي: ما من أمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير؛ نبيّ، أو عالم، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر: أمة. والمراد هنا: أهل العصر. قال ابن عطية: معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ، ومعناه: نذيرٌ مباشر، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم، فإنما ذلك بالفرض، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. هـ.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة: أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف؛ لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. هـ. وقال ابن مرزوق في شرح حديث هرَقْل: الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحليه بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً؛ لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطىء قطعاً. هـ.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه: آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم، فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. هـ. وقال أيضاً: إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه: أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين ـ وهذا قليل الوجود ـ إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. هـ.
والحاصل: أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة: وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات: المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برْد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون. قال القشيري: { وما يستوي الأعمى والبصير... } الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا. هـ. وقوله تعالى: { وإِن من أُمةٍ إِلا خلا فيها نذير } النذير على قسمين: نذير من وبال الذنوب، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب: العذاب، ووبال العيوب: الحجاب، فمَن تطهَّر من الذنوب استوجب نعيم الجنان، ومَن تطهّر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام الله، والثاني عارف بالله الأول مقتصد، والثاني سابق، ولا يخلو الدهر منهما، حتى يأتي أمر الله، فالشريعة باقية قائمة بقيام العلماء، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله، أهل التربية النبوية، بالاصطلاح، والهمة، والحال. ومَن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.
ثم سلّى نبيه لأنه لمَّا أنذر قومه قابلوه بالتكذيب فقال: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ... }