قلت: { غيرُ الله }: من رفعه فنعت للمحل، أي: هل خالق غير الله، ومن جره: فنعت للفظ. و { يرزقكم }: إما استئناف، أو: صفة ثانية لخالق، و { لا إله إلا هو }: مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الناس اذكروا نعمةَ اللهِ عليكم } باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال: { هل من خالق غيرُ اللهِ يرزقكم من السماء } بالمطر { والأرض } بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، { لا إِله إِلا هو فأنى تُؤفكون } فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله: { وإِن يُكذِّبوك فقد كُذِّبتْ رسلٌ مِن قبلك } فلك فيهم أُسوة، فاصبر كما صبروا. وتنكير "رسل" للتعظيم، المقتضي لزيادة التسلية، والحث على المصابرة، أي: فقد كُذِّبت رسل عظام، ذوو عدد كثير، وأولو آيات عديدة، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام: وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك؛ لأن الجزاء يعقب الشرط، ولو أجري على الظاهر، لكان الجزاء مقدماً على الشرط؛ لأن تكذيب الرسل سابق، فَوضعَ { فقد كُذّبت رسل من قبلك } موضع فتأسّ، استغناءً بالسبب عن المسبب. { وإِلى الله تُرجع الأمورُ } وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب، وفي الآخرة معلوم، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر النعمة هو أن ينظر العبد، ويتفكر في نفسه، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان. وليتفكر في حالته الماضية، فقد كان جاهلاً، فعلَّمه الله، ضالاًّ، فهداه الله، غافلاً، فأيقظه الله، عاصياً، فوفقه الله، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم" .وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تذاكروا النعم؛ فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري: مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ. قلت: مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين؛ إذ المتجلي واحد. ثم قال: والنعمة على قسمين: ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، { هل من خالق غير الله... }؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره؛ لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
ثم قال في قوله: { وإِن يُكذِّبوك... } الآية: وفي هذا إشارة للحكماء، وأرباب القلوب، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية، إلا بسَتْر حالهم عنهم، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين، والعلماء المتجمدين، الذين هم لهذه الأصول منكرون. هـ.
ثم حذَّر من الدنيا لأنها تنسي النعم والشكر فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ... }