التفاسير

< >
عرض

إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ
٥٥
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ
٥٦
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ
٥٧
سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ
٥٨
وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٥٩
-يس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "سلام": بدل من "ما" أو: خبر عن مضمر، أو: مبتدأ حُذف خبره، أي: من ذلك سلام، وهو أظهر؛ ليكون عاماً، أي: ولهم كل ما يتمنون، كقوله: { { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 31] ومن جملة ذلك: { سلام قولاً من رب رحيم } فيوقف على "ما يدَّعون". و "قولاً": منصوب على المصدر المحذوف، أي: يقال لهم "قولاً"، وقيل: على الاختصاص.
يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّ أَصحابَ الجنةِ اليومَ في شُغلٍ } ـ بضم الغين وسكونها ـ أي: في شغل لا يوصف؛ لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم، وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما قيل: يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة، كما نُفضي إليهن في الدنيا؟ قال:
"نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء" وعن أبي أمامة: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: نعم، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحْماً دحْماً" .قال في القاموس: دحمه ـ كمنعه: دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً" ، وفي رواية أبي الدرداء: "ليس في الجنة مَنِّي" .وفي رواية: "بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً" وعن إبراهيم النخعي: جماع ما شئت، ولا ولد. هـ. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد، كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة" . انظر البدور السافرة.
قلت: والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح، من حور، وولدان، وأطعمة، وأشربة، على ما يشتهي، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح، كالنظر لوجه الله العظيم، ومشاهدة الحبيب، ومناجاة، ومكالمات، ومكاشفات، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين، وسيأتي في الإشارة. وقوله تعالى: { فَاكِهُون } أي: متلذذون في النعمة، والفاكه والفكه: المتنعم، ومنه: الفكاهة؛ لأنه مما يتلذّذ به، وكذا الفاكهة.
ثم قال تعالى: { هُمْ وأَزواجُهم في ظِلالٍ } جمع ظِل، وهو: الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة "ظُلَل" بالضم، جمع ظُلة، كبُرمة وبرام، وهو ما يسترك عن الشمس، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس، قال تعالى:
{ { وَظِلًٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة: 30] { عَلَى الأَرَآئِكِ }: جمع أريكة، وهي السرير في الحَجَلة. فالأرائك: السرر المفروشة، بشرط أن تكون عليها الحَجلة، وإلا فليست بأريكة، والحَجَلة: ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم { متكئون } عليها كالملوك على الأسرّة. { لهم فيها فاكهة } كثيرة مما يشتهون. { ولهم ما يَدَّعُون } أي: كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً، فوزنه: يفتعلون، من الدعاء، أو: ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح، من قولهم: ادَّع عليّ ما شئت، أي: تمنّه. وقال الفراء: هو من الدعوى، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون.
{ سلام قولاً من ربٍّ رحيم } أي: من أهم ما يدعون: سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم، بلا واسطة؛ مبالغة في تعظيمهم، وذلك غاية متمناهم، مضافاً لرؤيته، ومن مقتضى الرحمة: الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري: يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد بقوله: { قولاً }. وبقوله: { من ربٍّ رحيم } ليُعلم أنه ليس على لسان سفير، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم، ليكمل لهم النعمة هـ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
"بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فينظر إليهم، وينظرون إليه" .
ثم ذكر أهل البُعد والحجاب، فقال: { وامتازوا اليومَ أيها المجرمون } أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة، وذلك حين يُحشر المؤمنون، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار، يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى أبداً. هـ.
الإشارة: إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه، اليوم، في شُغُل كبير، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله، بين شهود واستبصار، وتفكُّر واعتبار، في محل المشاهدة والمكالمة، والمناجاة والمساررة، أوقاتهم محفوظة، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا، وبرد التسليم يرتادون، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون. قال القشيري: إن أصحاب الجنة اليوم، أي: طلابها، والساعون لها، والعاملون لنيلها، ولمثل ذلك فليعمل العاملون، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها، كما جاء في الحديث:
"أكثر أهل الجنة البُلْه" ، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا، "يختص برحمته من يشاء" ـ قلت: فالبله هم أهل الحجاب، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء، ويقنعون بالنعيم الحسي ـ ثم قال: ويقال: الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم، وبين شهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته، بأي حالةٍ كانت. ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم، في معارفهم. هـ. مختصراً.
قلت: وما في سورة الواقعة، من ذكر نعيم السابقين، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان، مع نعيم العيان والرضوان؛ لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: { سلام قولاً من ربٍّ رحيم } قال ابن عطاء: السلام جليل عظيم الخطر، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة، حين يقول: سلام قولاً من رب رحيم. قال القشيري: الرحمة في ذلك الوقت أن يُبقهم في حال سماع السلام، أو حال اللقاء، لئلا تصحبهم دهشة، ولا تلحقهم حيرة. هـ. وقال الورتجبي: سلام الله أزلي الأبد، غير منقطع عن عباده الصالحين، في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب، فسَمِعُوا كلامه، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. هـ. قلت: وقد يُرفع في دار الدنيا، فيسمع سلام الله على عباده، كما وقع لبعض الأولياء ـ. قيل: وفي قوله: { رحيم } إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء، فلا تصحبهم دهشة، كما تقدّم. وقيل: الإشارة في الرحيمية: أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد، وإنما هو بالرحمة، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشي.
وقوله: { وامتازوا اليوم } إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف، فالأولياءُ في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة. انظر القشيري.
ثم ذكر توبيخ أعدائه يوم القيامة، فقال: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ... }