التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
-يس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وما علَّمناه الشِّعْرَ } أي: وما علّمنا نبينا محمداً الشعر، حتى يقدر أن يقول شعراً، فيُتهم على القرآن، أو: وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فإنه غير مقفّى ولا موزون، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفيه؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء، { وما ينبغي له } أي: وما يليق بحاله، ولا يتأتى له لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له، ولم يسهل، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط؛ لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض.
وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ" ، وقوله: "هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصبعٌ دَمِيتِ، وفِي سَبِيلِ الله ما لَقِيتِ" ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد، كما يتفق في خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم، ولا يسمى شعراً إلا ما قصد وزنه.
ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر، قال: { إِن هو إِلا ذِكْرٌ } أي: ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله، يُوعظ به الإنس والجن، { وقرآنٌ } أي: كتاب سماوي، يُقرأ في المحاريب، ويُتلى في المتعبّدات، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك { لتُنذر به } يا محمد، أو: لينذر القرآن { من كان حَيًّا } بالإيمان، أو عاقلاً متأملاً؛ فإن الغافل كالميت، أو: مَن سبق في علم الله أن يحيى؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، { ويَحِقَّ القولُ } أي: تجب كلمة العذاب { على الكافرين } المُصرِّين على الكفر، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات، كقوله:
{ { ومَآ أَنتَ بِمُسْمَعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ } [فاطر: 22].
الإشارة: أما النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنفى الله عنه صنعة الشِّعر، والقوة عليه، لئلا يُتهم فيما يقوله، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية، والحضرة القدسية، أو في الحضرة النبوية، وينالون بذلك تقريباً، ورتبة كبيرة، وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"لأنْ يمتَلىءَ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خَيرٌ من أن يمتَلىء شِعْراً" فالمراد به شعر الهوى، الذي يشغل عن ذكر الله، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة، أخي بني قيس:

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ

وربما عكسه فقال: "ويأتيك مَن لم تزود بالأخبار". وبالله التوفيق.
ثم ذكرّهم بالنعم، علّهم ينقادوا بملاطفة الإحسان، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا... }