التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ
١٦٧
لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٦٨
لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
١٦٩
فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
١٧٠
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ
١٧١
إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ
١٧٢
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ
١٧٣
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ
١٧٤
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
١٧٥
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
١٧٦
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ
١٧٧
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ
١٧٨
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
١٧٩
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
١٨٠
وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٨١
وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٨٢
-الصافات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وإِن كانوا } أي: مشركو قريش { لَيَقُولون } قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: { لو أنَّ عندنا ذِكْراً من الأولين } أي: كتاباً من كتب الأولين، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، { لكُنَّا عبادَ الله المخلصين } أي: لأخلصنا لله، وما كذّبنا كما كذَّبوا، ولَمَا خالفنا كما خالفوا، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب، فكفروا به، { فسوف يعلمون } عاقبة تكذيبهم، وما يحلّ بهم من الانتقام. و"إن" مخففة، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون، مؤكّدين للقول، جادّين فيه، ثم نقضوا بأشنع نقض، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز، فقال: { ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسَلين } أي: وعدناهم بالنصر والغلبة. والكلمةُ هي قوله: { إِنهم لَهُمُ المنصورون } دون غيرهم، { وإِنَّ جُندَنا لهم الغالبون } وإنما سمّاها كلمةٌ، وهي كلمات؛ لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن: ما غُلب نبيّ في حرب قط. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسَه، والغالب منه: الظفَرُ والنصر، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر، والعبرة بالغالب.
{ فتولَّ عنهم حتى حين } إلى مدة يسيرة. وهي المدة التي أُمهلوا فيها، أو: إلى بدر، أو: إلى فتح مكة، { وأَبْصِرْهُم } أي: أبصر ما ينالهم، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك كائن قريب، { فسوف يُبْصِرُون } ما قضينا لك من النصر والتأييد، والثواب الجزيل في الآخرة. و "سوف" للوعيد، لا للتبعيد.
ولَمّا نزل: { فسوف يُبْصرُون } قالوا: متى هو؟ فنزل: { أفبعذابنا يستعجلون } قبل وقته؟ { فإِذا نَزَلَ } العذاب { بساحتهم فسَاءَ صباحُ المنذَرِين } صباحهم. واللام للجنس؛ لأن "ساء" و "ليس" يقتضيان ذلك. قيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل: نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً. والصباح: مستعار من: صباح الجيش المبيت، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً، وإن وقعت في غيره.
{ وتولَّ عنهم حتى حينٍ وأبْصِرْ فسوف يُبصِرون } كُرر ليكون تسلية بعد تسلية، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد، وفيه فائدة، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول، بعد التقييد له، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل: أريد بأحدهما: عذاب الدنيا، وبالآخر: عذاب الآخرة.
{ سبحانَ ربك ربِّ العزة } أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها، أو: يريد: أن ما من عزّ لأحد إلا وهو ربها ومالكها، لقوله:
{ { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } [آل عمران: 26] أي: تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. { وسلامٌ على المرسلين } عمّم الرسل بالسلام بعدما خصص البعض في السورة؛ لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً. { والحمدُ لله ربِّ العالمين } على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء.
قيل: في ختم السورة بالتسبيح بعدما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذيبهم، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم؛ لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة، وكلمات فيها رضى الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلس أن يتلو هذه الآية؛ لتكون مكفرة لتلك السقطات، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم:
"كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات؛ إلا كُفِّرَ بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ، ومجلس ذكرٍ، إلا ختم الله بهن، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة؛ سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" . والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ كرّم الله وجهه: مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون }... الخ.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم" .
الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين، بصحبته وخدمته، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر، وأَنِفَ واستكبر، وقنع بما عنده من العلم، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه، من الامتحان في أول البادية، قال: ليس هذه طريق الولاية، فيقال له: ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسلين، ولِمن كان على قدمهم، إنهم لَهُمُ المنصورون، وإِنَّ جندنا لهم الغالبون، فتولّ عن مثل هذا حتى حين، وهو وقت هجوم الموت عليه، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب، وسوء الحساب، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم، فيقال له: { أفبعذابنا يستعجلون... } الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن، فينزهونه بقولهم: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين }.