التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
٥٥
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٥٦
هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
٥٧
وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ
٥٨
هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ
٥٩
قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٦٠
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ
٦١
وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ
٦٢
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار
٦٣
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ
٦٤

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (هذا) خبر، أي: الأمر هذا، أو: مبتدأ؛ أي: هذا كما ذكر، وهو من الاقتضاب الذي يقرب من التخلص، كقوله بعد الحمد: أما بعد. قال السعد: هو من فصل الخطاب، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص. قال: وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله: { { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ... } [ص: 49] هـ. قال الطيبي: هو من فصل الخطاب، على التقدير الأول، لا الثاني. هـ. أي: إذا كان خبراً عن مضمر، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: { هذا } أي: الأمر هذا، { وإِنَّ للطاغين لشرَّ مآبٍ }؛ مرجع { جهنَّمَ يصلونها }؛ يدخلونها، حال من جهنم، { فبئس المِهادُ }: الفراش، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص محذوف، أي: جهنم.
{ هذا فليذوقوه } أي: ليذوقوا هذا فليذوقوه، كقوله تعالى:
{ { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [البقرة: 40] أو: العذاب هذا فليذوقوه، وهو { حميمٌ وغسَّاق }... الخ، أو: { هذا }: مبتدأ، و { حميم وغساق }: خبر، وما بينهما اعتراض، والغساق: ما يَغسَق، أي: يسيل من صديد أهل النار، يقال: غَسَقت العين؛ إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. قيل: "لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق" وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله. وهو بالتخفيف والتشديد، قرىء بهما.
{ وآخَرُ } أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر، { من شَكْلِه }؛ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري: "أُخَرُ" بالجمع، أي: ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاظة، { أزواجٌ } أي: أصناف، وهو خبر لأخر، أو: صفة له، أو: للثلاثة.
{ هذا فوج مُّقْتَحِمٌ معكم }، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة. والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة، أو: من كلام الطاغين بعضهم من بعض. { لا مرحباً بهم }، هو من تمام كلام الخزنة، على الأول، أو: من كلام الطاغين، دعاء منهم على أتباعهم. يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به. مرحباً، أي: وجدت مكاناً رَحْباً، لا ضيقاً، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء، فتقول: لا مرحباً. و "بهم": بيان للمدعو عليهم، { إِنهم صالُوا النارِ } أي: داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم. وقيل: { هذا فوج... } إلخ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و { لا مرحباً بهم... } الخ، من كلام الرؤساء.
{ قالوا } أي: الأتباع، { بل أنتم لا مرحباً بكم } أي: الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به، وعلّلوا ذلك بقوله: { أنتم قدمتموه لنا } أي: إنكم دعوتمونا للكفر، فتبعناكم، فقدمتمونا به للعذاب، { فبئس القرارُ } أي: بئس المقر جهنم، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم. { قالوا } أي: الأتباع، معرَّضين عن خصومتهم، متوجهين إلى الله: { ربَّنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْهُ عذاباً ضعفاً } أي: مضاعفاً. { في النار } أو: ذا ضعف، ومثله قوله:
{ { رَبَّنَا هَؤُلآَءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً } [الأعراف: 38]، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
{ وقالوا } أي: الرؤساء: { ما لنا لا نرى رجالاً }، يعنون: فقراء المسلمين، { كنا نَعُدُّهُم } في الدنيا { من الأشرار }؛ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم، { أتَّخذناهم سِخْرِيّاً }، بهمزة الاستفهام، سقطت لأجلها همزة الوصل. والجملة: استئنافية، ومَن قرأ بالوصل فقط فالجملة: صفة ثانية لرجال، { أم زاغتْ }؛ مالت { عنهم الأبصارُ }، والمعنى على الاستفهام: أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة، أم دخلوها معنا، ولكن مالت عنهم أبصارنا، فلا نراهم معنا؟ وعلى الاستخبار: ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار، كانوا عندنا أشراراً، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم، ثم أضربوا وقالوا: بل زاغت عنهم الأبصار، فلا نراهم فيها، وإن كانوا معنا، أو: زاغت أبصارنا، وكلَّت أفهامنا عنهم، حتى خفي علينا مقامهم، وأنهم على الحق ونحن على الباطل، وما تبعناهم. ومَن قرأ "سُخريا" بالضم؛ فمن: التسخير والاستخدام. ومَن قرأ بالكسر، فمن: السخر، الذي هو الهزء. وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً، فراجعه.
{ إِن ذلك } الذي حكى من أحوالهم { لَحَقٌّ } لا بد من وقوعه ألْبتة، وهو { تخاصمُ أهلِ النار } فيها على ما تقدّم.
ولمّا شبَّه تفاوضهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين، سمَّاه تخاصماً، وبأنَّ قول الرؤساء: { لا مرحباً } وقول الأتباع: { بل أنتم لا مرحباً بكم } من باب الخصومة لا محالة، فسمي التقاول كله تخاصماً؛ لاشتماله على ذلك.
الإشارة: كل مَن تعدى وطغى، ولم يتب، من المؤمنين، يرى شيئاً من أهوال الكفرة، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل، ويكون سكناه في أسفل الجنة، فيقول: ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار، أتخذناهم سخرياً، وهم كُبراء عند الله، رُفعوا عنه، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيُجابون: بأنهم رُفعوا مع المقربين، كانوا مشتغلين بنا، وكنتم منهم تضحكون. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا، في كل حين، وبالله التوفيق.
ثم قرّر تحقيق الرسالة والوحدانية، فقال: { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ }.