التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٦٥
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ
٦٦
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ
٦٧
أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
٦٨
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
٦٩
إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٧٠

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { قُلْ } يا محمد للمشركين: { إِنما أنا مُنذِر } من جهته تعالى، أُنذركم عذابه، { وما من إِلهٍ } في الوجود { إِلا اللهُ الواحدُ } الذي لا يقبل الشركة أصلاً، { القهَّارُ } لكل شيء سواه، { ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما } من المخلوقات، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها، { العزيزُ }؛ الذي لا يغلب { الغفارُ }؛ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء. وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد، والوعد للموحِّدين، والوعيد للمشركين، ما لا يخفى. وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة؛ لتقوية الإنذار.
{ قل هو } أي: ما نبأتكم به من كوني رسولاً، وأنَّ الله واحد لا شريك له، { نبأٌ عظيمٌ }؛ وارد من جهته تعالى، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك. { أنتم عنه معرضون }؛ غافلون، وعن ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل، له شأن خطير، لا بد من الاعتناء به، أمراً وائتماراً.
{ ما كان لِيَ من عِلْم بالملأِ الأعلى إِذْ يختصمون }، احتجاج على صحة نبوته، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى، واختصامهم، أمر غيبي، لم يكن له به علم قطّ، ثم علمه وأخبر به، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ عن أهل العلم، ودراسة الكتب، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة، وآدم، وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، وكان اختصامهم: التقاول بينهم، كقولهم:
{ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا... } [البقرة: 30] الخ، وكقول إبليس: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ... } [الأعراف: 12 و ص: 76] الخ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات. وقيل: اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه، حتى يقضي الله ما شاء.
ورُوي في هذا حديث، وهو أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال له ربه ـ عزّ وجل ـ في النوم:
"أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الدرجات؛ فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" . رواه الترمذي.
و { إِذ يختصمون }: متعلق بمحذوف يقتضيه المقام؛ إذ المراد نفي علمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحالهم لا بذواتهم، والتقدير: ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
{ إِن يُوحَى إِليَّ أَنَّما أنا نذير مبينٌ } أي: ما يُوحى إليَّ ما يوحى من الأمور الغيبية، التي من جملتها حال الملأ الأعلى، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل، أي: ما يوحى إليّ إلا هذا، وهو أن أُنذر وأُبلّغ، ولا أُفرط في ذلك، أي: ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده، وليس إليَّ غير ذلك. وقرىء بكسر "إنما" على الحكاية، أي: إلا هذا القول، وهو: أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدّعي شيئاً آخر.
الإشارة: تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور؛ في توحيد الألوهية، بالتبري من الشرك الجلي والخفي. وهو مفاد قوله: { وما من إِله إِلا الله... } الخ. وفي تصديق الواسطة، وهو النذير المبين، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم، وفي التصديق بما جاء به، وهو النبأ العظيم، على أيّ تفسير كان، إما القرآن، باتباعه، والتدبُّر في معانيه، أو: يوم القيامة، بالتأهُّب له، وجعله نُصب العين. وبالله التوفيق.
ثم فسَّر الاختصام المتقدم، فقال: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ }.