التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٩
قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٥٠
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
٥١
-الزمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { فإِذا مَسَّ الإِنسانَ } أي: جنسه { ضُرٌّ }: فقر أو غيره { دعانا } معرضاً عما سوانا. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من ذكر حالتي أهل الشرك القبيحتين، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، أي: إنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسّهم الضر دعوا مَن اشمأزوا عن ذكره، دون مَن استبشروا بذكره، فناقضوا فعلهم.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه؟ قلت: ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، بأمر من الله، وقوله: { أنت تحكم بين عبادك }، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم، واستبشارهم، ورجوعهم إلى الله في الشدائد، دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، إلا أنت، ثم هددهم بقوله: ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به. انظر النسفي.
{ ثم إِذا خوَّلناه نعمةً منا }: أعطيناه إياها، تفضُّلاً؛ فإن التخويل مختص به، لا يطلق على ما أعطى جزاء، فإذا أعطيناه ذلك { قال إِنما أُوتيته } أي: ذلك التخويل أو الإنعام { على عِلْم } مني بوجوه كسبه، كما قال قارون:
{ { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [القصص: 78] أو: على علم مني بأني سأُعطاه، لِما فيّ من فضل واستحقاق، أو: على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من { خولناه }، أو: بتأويل النعمة بمعنى الإنعام، أو: المراد بشيء من النعمة، أو: يعود على "ما" إذا قلنا: موصولة، لا كافة، أي: إن الذي أوتيته على علم مني.
قال تعالى: { بل هي فتنةٌ } أي: ليس ما خوَّلناه نعمة؛ بل هي محنة وابتلاء له؛ ليظهر كفره أو شكره. ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقرىء: "بل هو فتنة". { ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يعلمون } أنَّ الأمر كذلك، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس.
{ قد قالها الذين مِن قبلهم } أي: قد قال هذه المقالة، وهي: { إنما أوتيته على علم } من قبلهم، كقارون وقومه، قال قارون:
{ { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } [القصص:78] وقومه راضون بمقالته، فكأنهم قالوها معه. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. { فما أَغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من متاع الدنيا، وما جمعوا منها شيئاً حتى ينزل بهم العذاب، { فأصابهم سيئاتُ ما كَسَبُوا } أي: جزاء سيئات ما كسبوا، وهو العذاب في الدنيا والآخرة، أو: سمّي جزاء السيئة سيئة؛ للازدواج، كقوله: { { وَجَزآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] أي: فأصابهم وبال ما كسبوا، { والذين ظلموا من هؤلاء }: المشركين، يعني قريشاً، { سيُصِيبهُم سيئاتُ ما كسبوا } من الكفر والمعاصي، كما أصاب أولئك. والسين للتأكيد. وقد أصابهم ذلك، حيث قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم يوم بدر. { وما هم بمُعْجزين }: بفائتين من عذاب الله.
الإشارة: هذه الخصال الذميمة تُوجد في كثير من هذه الأمة، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى الله، فإذا فرّج عنه بسب عادي كما هو دأب عالم الحكمة، أسند الفرج إلى ذلك السبب، فيقول: فلان فرّج عني، أو الدواء الفلاني شفاني، وهو شرك، كاد أن يكون جليّاً. والواجب: النظر إلى فعل الله وقدرته، وإسقاط الوسائط من نظره، ولو وجدت حكمةً، فالكمال فعلها وجوداً، والغيبة عنها شهوداً. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما جرت به عادته في خلقه، من تعاقب العسر واليسر، والقبض والبسط، فقال: { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ }.