التفاسير

< >
عرض

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ
٧٣
وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٧٤
وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٥
-الزمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وسيقَ الذين اتقوا ربهم } مساق إعزاز وتشريف، بلا إسراع ولا تكليف، إلى دار الكرامة والتعريف. قيل: يُساقون راكبين مبجَّلين، كما يجيء الوافدون إلى دار الملوك، يساقون { إِلى الجنة زُمراً }؛ جماعة متفاوتين، بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل، وعلو الطبقة، { حتى إِذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابها } الثمانية. وقرىء بالتخفيف والتشديد. وجواب "إذا" محذوف؛ للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تُحيط به العبارة، كأنه قيل: حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان. { وقال لهم خزنتُها سلامٌ عليكم طبتم }؛ ظفرتم، وتقدّستم في دار التقديس من كل دنس، وطبتم نفساً، بما أتيح لكم من النعيم والأمن، { فادْخُلوها خالدين }، وحذف الواو في وصف أهل النار؛ لأن أبواب جهنم لا تفتح لهم حتى لهم حتى يصلوا إليها، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم، كما هي حال السجون، بخلاف أهل الجنة، فإنهم يجدونها مفتوحة، قال تعالى: { { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } [ص: 50] كما هي حال منازل الأفراح والسرور.
{ وقالوا الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَهُ } أي: أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى، { وأورثنا الأرضَ }؛ أرض الجنة، أي: المكان الذي استقرُّوا فيه، وقد أُورثوها وملكوها. وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، واتساعه فيها، { نتبوَّأُ من الجنة حيث نشاءُ } أي: يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف، سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ أيَّ مكان أراده من جنته الواسعة، { فَنِعمَ أجرُ العاملين } في الدنيا الجنة.
{ وترى الملائكةَ } حال كونهم { حافِّينَ من حول العرشِ } أي: محدقين به. و "من" لابتداء الغاية، أي: ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله، أو: زائدة، { يُسبِّحون بحمدِ ربهم } أي: يقولون سبحان الله، والحمد لله، سُبوح قُدوس، رب الملائكة والروح. أو: ينزهونه تعالى عما لا يليق به، ملتبسين بحمده. والمعنى: ذاكرين الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه، تلذُّذاً، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين في لذائذهم هو الاستغراق في شهوده عزّ وجل.
{ وقيل الحمدُ لله رب العالمين } يقوله أهل الجنة شكراً لله حين دخلوها، وتمّ وعد الله لهم: { الحمد لله رب العالمين } كما قال:
{ { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس: 10].
الإشارة: وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف، زُمراً، متفاوتين في السير، على قدر تفاوتهم في القريحة، والاعتناء، والتفرُّغ من الشواغل والعلائق. حتى إذا جاؤوها وفُتحت أبوابها، بذهاب حجاب الكائنات، حتى بقي المكوّن وحده، كما كان وحده، وجدوا من الأسرار والأنوار ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة. وقال لهم خزنتها، وهم شيوخ التربية، العارفون الله: سلام عليكم طِبتم، أي: تقدّستم من العيوب والأكدار، فادخلوها خالدين؛ لأن مَن وصل لا يرجع أبداً، وما رجع مَن رجع إلا من الطريق. وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول، على ألسنة المشايخ. قال في الحِكَم: "سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه".
وأورَثَنا أرضَ الوجود بأسره، نتبوأ من جنة المعارف، في أقطار الوجود، بفكرتنا وهمتنا، حيث نشاء، فنِعم أجر العاملين. وترى الملائكة حافين من حول العرش، أي: قلب العارف؛ لأن بيت الرب، ومحل قرار نوره، فيحفُّونه بالحفظ والرعاية من دخول الأغيار، ويُنزهون الله عن الحلول والاستقرار. وقُضي بينهم بالحق، فعزلت الشياطين عن قلوب الذاكرين، وتسلّطت على قلوب الغافلين، والحمد لله رب العالمين، حيث لم يظلم أحداً من العالمين.