التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: من قرأ: { والأرحامَ } بالنصب، فعطف على لفظ الجلالة، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من { به }؛ كقول الشاعر:

فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار، فيقولون: مررت به وبزيد. وقال ابن مالك:

ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا

والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة، وهذا هو التوجيه الصحيح، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الناس } أي: جميع الخلق، اتقوا ربكم فيما كلفكم به، ثم بيَّن موجب التقوى فقال: { الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم، { وخلق منها زوجها } يعني حواء، من ضلع من أضلاعه، { وبث } أي: نشر { منهما رجالاً كثيرًا ونساء } أي: نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي: واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر، وذكر: { كثيرًا } حملاً على الجمع، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. هـ.
{ واتقوا الله الذي تساءَلون به } أي: يسأل بعضكم بعضَا فيقول: أسألك بالله العظيم، { والأرحام } أي: واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فمن قطعها قعطه الله، ومن وصلها وصله الله، كما في الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام، فيقول بعضكم لبعض: أسألك بالرحم التي بيني وبينك، أو بالقرابة التي بيني وبينك. ثم هددهم على ترك ما أُمروا به فقال: { إن الله كان عليكم رقيباً } حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال.
الإشارة: درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال: إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين: المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله
" "أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك" " ، فقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه" إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك" إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة ــ التي هي مقام المقربين ــ فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة... الخ.
وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.