التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
-غافر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { إِن الذين كفروا يُنَادَوْنَ } يوم القيامة، من قِبل الخزنة ـ وهم في النار: { لَمقْتُ الله } إياكم اليوم، وإهانته لكم، { أكْبرُ من مقتكم أنفسَكُم } في الدنيا، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان، { إِذْ تُدْعَون إلى الإِيمان } من قِبَل الرسل { فتكفرون }، والحاصل: أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا، وأهانوها، حيث لم يؤمنوا، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك، فـ "إذا": ظرف للمقت الثاني، لا الأول، على المشهور.
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتتين وحياتين. قال ابن عباس: كانوا أمواتاً في الأصلاب، ثم أحياهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بُد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ... } [البقرة: 28] الآية. قال السدي: أُميتوا في الدنيا، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال، ثم أُميتوا في قبورهم، ثم أُحيوا في الآخرة.
والحاصل: أنهم أجابوا: بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية: ألاَّ حياة بعد بالموت، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم، وداموا على الإنكار، فلمّا رأوا الأمر عياناً، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله: { قالوا ربنا... } الخ لما قبله: الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث، الذي أوجب لهم المقت والعذاب؛ طمعاً في الإرضاء له بذلك؛ ليتخلصوا من العذاب، ولذلك قالوا: { فاعترفنا بذنوبنا }، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما يتبعه من جرائمهم. ومقصدهم بهذا الإقرار: التوسل بذلك إلى ما علَّقوا به أطماعهم الفارغة من الرجوع إلى الدينا، كما صرّحوا به في قولهم: { فهل إلى خُروج } أي: نوع من الخروج، سريع أو بطيء، { من سبيلٍ } أو: لا سبيل إليه قط. وهذا كلامُ مَن غلب عليه اليأس، وإنما يقولون ذلك تحيُّراً، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه، ولذلك أُجيبوا بقوله:
{ ذلِكُم } أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وألاَّ سبيل إلى الخروج، { بأنه } أي: بسبب أن الشأن { إِذا دُعِيَ الله } في الدنيا، أي: عُبد { وَحْدَه } منفرداً { كفرتم } بتوحيده، { وإِن يُشْرَكْ به تؤمنوا } بالإشراك وتُسارعوا فيه، أي: كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان، وتُسارعون إلى الشرك. قيل: والتعبير بالاستقبال، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا، وحيث كان حالكم كذلك، { فالحُكم لله } الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته، { العَلِيّ } شأنه، فلا يُردّ قضاؤه، أو: فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه، { الكبير }: العظيم سلطانه، فلا يُحدّ جزاؤه. وقيل: إنَّ الحرورية أَخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذه الآية. قال عليّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم: كلمة حق أُريد بها باطل. هـ.
الإشارة: إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوص، وأنكروا وجود التربية، حتى ماتوا محجوبين عن الله، وبُعثوا كذلك، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال: لمقتُ الله لكم اليوم ـ حيث سقطتم عن درجات المقربين ـ أكبرُ من مقتكم أنفسكم حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان، وتحقيق الإيقان، على ألسنة شيوخ التربية، فتكفرون وتقولون: انقطعت التربية منذ زمان، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم، فيقال لهم: هيهات، قد فات الإبّان، "الصيفَ ضيعتِ اللبن". فامكثوا في حجابكم، ذلك بأنه إذا دُعي الله وحده، وأن لا موجود سواه، كفرتم بإنكاركم سبيله، وهي طريق التجريد والتربية، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب، والمكث فيها، تؤمنوا. والحاصل: أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد، ويؤمنون بطريق الأسباب، فالحُكم لله العلي الكبير، فيرفع مَن يشاء، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه.
ثم برهن على عدو شأنه بقوله: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ }.