التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٦١
ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٦٢
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٦٣
ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٦٤
هُوَ ٱلْحَيُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٦٥
-غافر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه } بأن خلقه مظلماً بارداً، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح، { و } جعل { النهارَ مبصراً } أي: مبصَراً فيه. فأسند الإبصار إلى النهار، مجازاً، والأصل في الحقيقة لأهل النهار. وقرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما؛ رعايةً لحق المقابلة، لأنهما متقابلان معنىً؛ لأن الليل مقابل النهار، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: لتُبصروا فيه؛ فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي، ولو قيل: "ساكناً" لم تتميز الحقيقة من المجاز، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، أي: ساكن لا ريحَ فيه.
{ إِنَّ الله لذو فضلٍ } عظيم { على الناس }، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة، وإنما لم يقل: المتفضل؛ لأن المراد تكثير الفضل، وأنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم. { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون }؛ لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم. وتكرير الناس، ولم يقل: أكثرهم؛ لتخصيص الكفران بهم، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله:
{ { إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } [الحج: 66].
{ ذلكمُ الله } أي: ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل والنهار؛ هو الله { ربكُم } لا ربّاً غيره، { خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو } أخبار مترادفة، أي: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإيجاد الأشياء، والوحدانية، { فأنَّى تُؤفكون } أي: فكيف، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! { كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون } أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، ولا مصحح له أصلاً، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل.
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال: { الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً }؛ مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم، { والسماء بناءً }؛ سقفاً فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء، مزيّناً بالمصابيح، وبساطه الأرض، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. { وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم }، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام، أي: صوّركم أحسن تصوير، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة، باديَ البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل: لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان. { ورزقكم من الطيبات } أي: اللذائذ، { ذلكم الله ربكم } أي: ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة، هو المستحق للربوبية، { فتبارك الله } أي: تعالى بذاته وصفاته { ربُّ العالمين } أي: مالكهم ومربيهم، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده؛ إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود.
{ هو الحيُّ }؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، { لا إِله إِلا هو }؛ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، { فادعوه }؛ فاعبدوه { مخلِصين له الدينَ } أي: الطاعة من الشرك والرياء، وقولوا: { الحمد لله ربِّ العالمين }. عن ابن عباس رضي الله عنه: مَن قال "لا إله إلا الله" فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين.
الإشارة: الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية. قال القشيري: سكونُ الناس بالليل ـ أي: الحسي ـ على أقسام: فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، فشتّان بين سكون غفلةٍ، وسكونِ وصلة، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم، وبسطهم، واستقبالهم، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم ـ أي: لا يسكنون إلى شيء ـ أولئك أصحابُ الاشتياق، أبداً في الإحراق هـ.
وقوله تعالى: { وصَوَّرَكُم } أي: صَوَّر أشباحكم، فأحسن صورتها، حيث بهَّجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي: فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي، واتخاذِكم بنفسي، ونفخت من روحي فيكم، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه، ومِن عكْس جماله، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح. هـ. قال القشيري: خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض، وجميع المخلوقات، ولم يقل في شيء منها: فأحسن صورها، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ، وأنشدوا:

مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ عنْدِي، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ
كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا عَلَيْكَ عِنْدِيَ بِالَّذِي عَابوا

لم يَقُلْ للشمس في عُلاها، ولا للأقمار في ضيائها: (فأَحسنَ صُوَرَكم) ولما انتهى إلينا قال: { { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]. ثم قال: وكما أحسن صُوركم محى من ديوانكم الزلاّت، وأثبت الحسنات، قال الله تعالى: { يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وُيُثْبِتُ } [الرعد: 39] هـ.
قوله تعالى: { ورزقكم من الطيبات } لذيذ المشاهدة، وأنس الوصلة. وقوله تعالى: { هو الحي } الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله، بحيث كان له نور يمشي به في الناس، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه، إن رآه لم ينهض حاله، ليسري حاله فيه، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي عليهما السلام. وبالله التوفيق.
ولَمَّا كان صلى الله عليه وسلم بين أظهر المشركين، نهى عن أن يتصف بصفاتهم، فقال: { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }.