البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قلت: { وأما ثمود }، قراءة الجماعة بالرفع، غير مصروف، إرادة القبيلة، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفاً، إرادة الحي، وقراءة ابن أبي إسحاق: بالنصب، من باب الاشتغال، وأصل الكلام: مهما يكن من شيء فثمود هديناهم، فحُذف الملزوم الذي هو الشرط، وأُقيم مقامه لازمه، وهو الجزاء، وأبقيت الفاء المؤذنه بأن ما بعدها لازم لما قبلها، وإلا فليس هذا موضع الفاء؛ لأن موضعه صدر الجزاء. انظر المُطوّل.
يقول الحق جلّ جلاله: { فإِن أعرضُوا } عن الإيمان بعد هذا البيان؛ { فقلْ } لهم: { أنذرتُكمْ }؛ خوَّفتكم. وعبّر بالماضي للدلالة على تحقُّق الإنذار المنبىء عن تحقُّق الوقوع، { صاعقةً } أي: عذاباً شديداً لو وقع كان كأنه صاعقة، وأصلها: رعد معه نار تحرق. تكون { مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ } وقد تقدّم عذابهما.
{ إِذ جاءتْهُمُ }: ظرف لمحذوف، أي: أنزلناها بهم حين جاءتهم { الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفِهِم } أي: أتوهم من كل جانب، وعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا الإعراض، أو: جاءتهم الرسل قبلهم لآبائهم، وبعدَهم لِمَن خلفهم، أي: تواردت عليهم الرسل قديماً وحديثاً، والمعهود إنما هو هود وصالح ـ عليهما السلام ـ وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله بمَنْ قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، { ألاَّ تعبدوا إِلا اللهَ } أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، على أنها مصدرية، أو: لا تعبدوا، على أنها مفسرة، وقيل: مخففة، أي: أنه لا تعبدوا إلا الله. { قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً } أي: لو شاء إرسال الرسل لأرسل ملائكة، ولَمَّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبَّر به، { فإِنا بما أُرسلتُم به كافرون } أي: فحيث كنتم بشراً مثلنا، ولم تكونوا ملائكة، ولم يكن لكم فضل علينا، فإنا لا نؤمن بكم، ولا بما جئتم به، وقولهم: { أُرسلتم به } ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكُّم، كما قاله فرعون: { { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] وقولهم: { بما أرسلتم به كافرون } خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء، الذين دعوا للإيمان.
رُوي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة، فكَلَّمه، ثم أتانا بالبيان من أمره، فقال عُتبة بن ربيعة: والله لقد سمعتُ الشعر والكهانة والسحر، وعلمتُ من ذلك علماً ما يخفى عليَّ، فأتاه، فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبمَ تشتم آلهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوةٍ من أيّ بنات قريش شئتَ، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك. والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ عتبةُ، قال صلى الله عليه وسلم: " { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم... } إلى قوله تعالى: { مثل صاعقة عاد وثمود } " ، فأمسك عتبة على فِيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم، فرجع عبتةُ إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم، قالوا: ما نرى عتبة إلا صبأ، فانطلقوا، وقالوا: يا عتبة؛ ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد، أم أنك أعجبك طعامه؟ فغضب، ثم قال لهم: لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو شعر، ولا كهانة، ولا سحر، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله: { مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسكتُ بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفتُ أن ينزل بكم العذاب. هـ.
ثم بيَّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود، فقال: { فأما عاد فاستبكروا في الأرض بغير الحق } أي: تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم، وهو القوة، وعظم الأجرام، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية، { وقالوا مَن أشدُّ منا قوةً }، كانوا ذوي أجسام طوال، وخلْق عظيم، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده، ويلوي الحديد بيده، { أوَلَمْ يَرَوا } أي: أَوَلَم يعلموا علم عيان { أن الله الذي خلقهم هو أشَدُّ منهم قوةً }؟ أوسعُ منهم قدرة؛ لأنه قادر على كل شيء، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره، { وكانوا بآياتنا } المنزلة على رسلهم { يجحدون } أي: ينكرونها وهم يعرفون حقِيتها، كما يجحد المودَعُ الوديعة. و (هم): عطف على (فاستكبروا)، وما بينها اعتراض، للرد على كلمتهم الشنعاء.
{ فأرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً } أي: بارداً تهلك وتُحرق؛ لشدة بردها، من: الصر، وهو البرد، الذي يجمع ويقبض، أو: عاصفة تصوّت في هبوبها، من الصرير، فضوعف، كما يقال: نهنهت وكفكفت. { في أيام نَّحِساتٍ }؛ مشؤومات عليهم، من: نَحِس نحساً، نقيض: سعد سعداً، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء، وما عُذِّب قوم إلا في الأربعاء. قيل: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر. قيل: إذا أراد الله بقوم خيراً، أرسل عليهم المطر، وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّاً، حبس عنهم المطر، وأرسل عليهم كثرة الرياح. هـ.
{ لنُذيقَهُمْ عذابَ الخزي في الحياة الدنيا }، أضاف العذاب إلى الخزي، وهو الذل، على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزي، ويدل عليه قوله: { ولعذابُ الآخرة أخزى } أي: أذل لصاحبه، وهو في الحقيقة وصف للمعذَّب، وُصف به العذاب للمبالغة، كقولك: له شعر شاعر. { وهم لا يُنصَرُون } برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
{ وأما ثمودُ فهديناهمْ }؛ دللناهم على الرشد، بنصب الآيات التكوينية، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات التشريعية، { فاستحبُّوا العَمَى على الهُدى } أي: اختاروا الضلالة على الهداية، { فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُون } أي: داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه، وهي الصيحة والرجفة، والهُون: الهوان، وصف به للمبالغة، { بما كانوا يكسبون } أي: بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي.
قال الشيخ أبو منصور: يحتمل قوله: { فهديناهم }: بيَّنا لهم، كما تقدّم، ويحتمل: خلق الهداية في قلوبهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك، وعقروا الناقة، لأن الهدي المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان، ويكون بخلق فعل الاهتداء، وأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان، لا غير. هـ.
وقال الطيبي: قوله تعالى: { فهديناهم } هو كقوله تعالى: { { إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ } [فصلت: 14]. وقوله: { فاستحبوا العمى على الهدى } هو كقوله: { { قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا... } [فصلت: 14] الآية. وكذا في قوله: { فأما عاد فاستكبروا في الأرض }، فإن الفاء في "فاستكبروا" فصيحة، تُفصح عن محذوف، أي: فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل في ثمود. هـ.
{ ونجينا الذين آمنوا } أي: اختاروا الهدى على العمى، من تلك الصاعقة، { وكانوا يتقون } الضلالة والتقليد.
الإشارة: كل مَن أعرض عن الوعظ والتذكار، ونأى عن صُحبة الأبرار؛ فالصعقة لاحقة به، إما في الدنيا أو في الآخرة. وقوله تعالى: { فأما عاد فاستكبروا... } الآية: أوصاف العبودية أربعة: الضعف، والذل، والفقر، والعجز، فمَن خرج عن واحد منها، فقد تعدّى طوره، واستحقّ الهلاك والهوان، ورمته رياح الأقدار في مهاوي النيران.
وقوله: { وأما ثمود فهديناهم } أي: بيَّنا لهم طريق السير إلينا، على ألسنة الوسائط، فحادُوا عنها، واستحبُّوا العمى على الهدى؛ حيث لم يسبق لهم الهداية في الأزل، فالسوابق تُؤثر في العواقب، والعواقب لا تؤثر في السوابق، فكأن جبلة القوم الضلالة، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة.
وقوله تعالى: { ونجينا الذين آمنوا } أي: في الدنيا من الصاعقة، وفي الآخرة من السقوط في الهاوية. قال القشيري: منهم مَن نجَّاهم من غير أن رأوا النار، عَبَروا القنطرةَ ولم يعلموا، وقومٌ كالبرق الخاطف، وهم أعلاهم ـ قلت: بل أعلاهم كالطرف ـ ثم قال: وقوم كالرواكض، وهم أيضاً الأكابر، وقوم على الصراط يسقطون وتردُّهم الملائكة على الصراط، فبَعُدوا. ثم قال: وقومٌ بعدما دخلوا النار، فمنهم مَن تأخذه إلى كعبيه، ثم إلى ركبتيه، ثم إلى حَقْوَيْه، فإذا بلغ القلب قال الحقُّ للنار: لا تحرقي قلبه، فإنه محترقُ بي. وقوم يخرجون من النار بعدما أمْتُحِشُوا فصاروا حُمَماً. هـ منه.
ثم ذكر وعيد أهل الشرك، فقال: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ }.