التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ
١٧
يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
١٨
ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
١٩
-الشورى

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { اللهُ الذي أنزل الكتابَ }؛ القرآن، أو: جنس الكتاب، { بالحق }؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره، أو: بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، { والميزانَ }؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس، أي: أنزله في كتبه المنزلة، وأمر به، أو: الشرع الذي يُوزن به الحقوق، ويساوي بين الناس. وقيل: هو عين الميزان، أي: الآلة، أنزله في زمن نوح عليه السلام. { وما يُدريكَ } أيَّ شيء يجعلك عالماً { لعلَّ الساعةَ } التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق { قريبٌ } مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر، وقيل: وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب: أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية، والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم.
{ يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها } استعجال إنكار واستهزاء، { والذين آمنوا مُشْفِقُون }؛ خائفون { منها } وجلون؛ لهولها، { ويعلمون أنها الحقُّ } الكائن لا محالة، { أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة }؛ يجادلون فيها، من: المرية، أو: المماراة والملاحاة، أو: من: مريت الناقة: إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. { لفي ضلالٍ بعيدٍ } عن الحق؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر، وقد تواترت الشرائع على وقوعها، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
{ اللهُ لطيف بعباده } أي: برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل: هو مَن لطُف بالغوامض علمه، وعظُم عن الجرائم حلمه، أو: مَن ينشر المناقب ويستر المثالب، أو: يعفو عمَّن يهفو، أو: مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك: حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله: { يرزق مَن يشاء }. هـ. أي: يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث:
"إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك" .
وأما قوله تعالى: { { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها. انظر الحاشية.
{ وهو القويُّ }؛ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، { العزيزُ } المنيع؛ الذي لا يُغْلَب.
الإشارة: الميزان هو العقل؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل: { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها... } الآية، وما قبله هو قوله: { والذين آمنوا مشفقون منها }.
وقوله تعالى: { اللهُ لطيف بعباده }، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه: إيهام العاقبة؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.
وقوله تعالى: { يرزق مَن يشاء } إما رزق الأرواح، أو رزق الأشباح، وإلى هذا القسمين أشار قوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ }.