التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
٣١
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٣٢
-الزخرف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم } أي: من إحدى القريتين؛ مكة والطائف، على نهج قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وعنوا بعظيم مكة: الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف: عروة بن مسعود الثقفي. وعن مجاهد: عظيم مكة: عتبة بن ربيعة، وعظيم الطائف: ابن عبد ياليل. ولم يتفوّهوا بهذه العظيمة حسداً، بل استدلالاً على عدم نزوله، بمعنى: لو كان قرآناً لأُنزل على أحد هؤلاء، بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل، لا يليق له إلا مَن له جلالة من جهة المال والجاه، ولم يدْروا أنها رتبة روحانية، لا يرتقى إليها إلا همم الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيّدين بالقوة القدسية، المتحلّين بالفضائل الإنسية، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية، المتمتعون بالحظوظ الدنية، فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف معزل.
قال ابن عطية: وإنما قصدوا إلى مَن عظم ذكره بالسن، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين. هـ. ومرادهم: الشرف الدنيوي، بحيث يتعرض للأمور؛ ليُذكَر ويُشار إليه، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم كان منزَّهاً عن ذلك من أول النشأة، كما هو حال أهل الآخرة، والنفوس في مهماتها إليهم أميلُ، وعليهم تعول، ولذلك كان أميناً عندهم، ولا ترضى جل النفوس أهل الفضول؛ لأماناتها، ولا تسكن إليها وتطمئن بها، وإنما تعظمها ظاهراً، لا حقيقة. وهذا كافٍ في الرد عليهم في أنهم لا يرضونهم لأماناتهم، لكيف يُرضون لأمانات الوحي.
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } [الأنعام: 124]. قاله في الحاشية.
وقوله تعالى: { أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ ربك }، إنكار عليهم، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمِهم في اختيار مَن يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة: النبوة.
{ نَحنُ قَسَمْنَا بينهم معيشتَهم }؛ ما يعيشون به، وهو أرزاقهم الحسية { في الحياة الدنيا } أي: لم نجعل قسمة الأدون إليهم، وهو رزق الأشباح، فكيف بالنبوة، والعلم، الذي هو رزق الأرواح؟ { ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات } أي: جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء، { ليتخذ بعضُهُم بعضاً سُخْرياً } أي: ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهماتهم، ويُسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويصلوا إلى أعمالهم، هذا بماله، وهذا ببدنه، ولو استووا في الغنى والفقر لبطل جُل المصالح، فسبحان المدبّر الحكيم.
قال القشيري: لو كانت المقاديرُ متساويةٌ لَتَعَطلَت المعايشُ، ولَبَقي كلٌّ عند حاله، فجعل بعضَهُم مخصوصاً بالترفُّه والمال، وآخرين بالفقر ورقّة الحال، حتى احتاج الفقيرُ في حين حاجته أن يعمل للغنيِّ، ليترفّق من جهته بأجرته، فيصلُح بذلك أمر الفقير والغنيّ معاً. هـ. ولو فوّضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية، في غاية العجز، فما ظنهم في تدبير أمر الدين والنبوة؟!.
وقيل: "سخريا" أي: يسخر بعضهم من بعض.
{ ورحمتُ ربك } أي: النبوة، أو: الدين وما يتبعه من الفوز في المآب، { خيرٌ مما يجمعون } أي: مما يجمعُ هؤلاء من حُطام الدنيا الدنية الفانية.
الإشارة: مما جرى في طبع الناس أنهم لا يُقرون الولاية إلا فيمن عَظُمَ جاهُه، وكثر طعامه، أو كثرت صلاته، أو كان مجذوباً مصطلماً، أو: سبقت في أسلافه، وهذا خطأ، فإن الولاية سر من أسرار الله، أودعها قلوب أصفيائه، لا تظهر على جوارحهم، ولا تكون في الغالب إلا في أهل التجريد، وأهل الخمول، أخفاها الله في عابده، فمَن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب، فهو مدّعٍ، ولذلك قال أبو المواهب رضي الله عنه: مَا ادّعى شهود الجمال، قبل تأدُّبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال.
ويقال لمَن أنكر على أهلها من أهل التجريد: { أهُم يقسمون رحمت ربك... } الآية، ورحمة ربك - هي سر الخصوصية - خير مما يجمعون.
وقال القشيري على قوله تعالى: { نحن قسمنا بينهم معيشتهم... } الخ، بعد كلام: ثم إنه تعالى قَسَمَ لبعض عباده النعمةَ والغنى، ولقوم الفقر والقلّة، وجعل لكلّ واحدٍ منهم مسكناً يسكنون إليه، ويستقلُّون به، فللأغنياء وجود الأنعام، وجزيل الأقسام، فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ القَسَّام، فحَمدوا وافتخروا، فالأغنياء وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: "نحن" فاشتغلوا، وفي الخبر: أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:
"أما تَرضَون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى أهليكم؟ والله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون" .هـ.
قوله تعالى: { نحن قسمنا بينهم... } الخ، قد سبقت أقسام الرزق قبل ظهور الخلق، فالواجب انتظار القسمة، والرضا بما قسم، كما قال الشاعر:

اقنعْ بما قسم الرزّاق من قِسَم وسلّم الأمرَ فالرزاق مختارُ
لا تجزعن ولا تبطَر على مِحَنٍ أو مِنَح، فإنما هي أحكام وأقدارُ
واقنع بكل الذي يجري الزمانُ به ولا يكن منك للمغرور انكسارُ

ثم ذكر إهانة الدنيا، وخساستها عنده، فقال: { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }.