التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
-الأحقاف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { ووصينا الإِنسانَ } بأن يُحسن { بوالديه حُسناً } وقرأ أهل الكوفة { إحساناً } وهما مصدران، وقرئ: "حَسَناً" بفتح الحاء والسين، أي: يفعل بهما فعلاً حَسَناً، أو: وصينا إيصاءً حَسَاناً، { حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً } أي: حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب، ونصبهما على الحال، أي: حملته كارهة، أو: ذات كُره، وفيه لغتان؛ الفتح والضم، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسمه. { وحَمْلُه وفِصَالُه } أي: ومدةُ حمله وفصاله، وهو الفطام. وقرأ يعقوبُ: "وفصله" وهما لغتان كالفَطْم والفطام، { ثلاثون شهراً } لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر؛ لأنه إذ حُط منه لفطام حولان، لقوله تعالى: { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] يبقى للحمل ستة، قيل: ولعل تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما، وارتباطِ النسب والرضاع بهما.
{ حتى إِذا بلغ أشُدَّه } أي: اكتهل، واستحكم عقله وقوته، وانتهت قامته وشبابه، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وقال زيد بن أسلم: الحلم، وقال قتادة: ستة وثلاثون سنة، وهو الراجح، وقال الحسن: قيام الحجة عليه. { وبلغ أربعين سنة } وهو نهاية الأشدّ، وتمام العقل، وكمال الاستواء.
قيل: لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين، قال ابن عطية: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته، وفي الحديث
"إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول: بأبي وَجْهٌ لايُفلح" . هـ. ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: "مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه منادٍ من السماء: هذا أسير الله في أرضه" . وهذا في العبد المقبل على الله. والله تعالى أعلم. وقُرئ: "حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه".
{ قال ربِّ أوزعني } أي: ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من الهداية والتوحيد، والاستقامة على الدين، { وعلى والديَّ } كذلك، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه، { وأنْ أعمل صالحاً ترضاه } التنكير للتفخيم والتكثير، قيل: هو الصلوات الخمس، والعموم أحسن، { وأَصْلِحْ لي في ذُريتي } أي: واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، أو: اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم، { إِني تُبتُ إِليك } من كل ذنب، { وإِني من المسلمين } الذين أخلصوا لك أنفسهم، وانقادوا إليك بكليتهم.
قال عليّ رضي الله عنه: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله بهما. هـ. فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه "أم الخير" وأولاده: عبد الرحمن، وابنه عتيق، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة. قال ابن عباس: أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. هـ.
قال ابن عطية: معنى الآية: هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع، وقول مَن قال: إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح. هـ. قلت: كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي، فيُخبر عنه كأنه واقع، ومنه:
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ } [الأحقاف: 10] و { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت:6، 7] وهذه الآية في إسلام إبي قحافة. والله تعالى أعلم.
{ أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } من الطاعات، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة، وضمّن "يتقبل" معنى يتجاوز، فعدّاه بعَن؛ إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول. { ويتجاوز عن سيائتهم } فيغفر لهم، { في } جملة { أصحاب الجنة } كقولك: أكرمني الأمير في نار من أصحابه، أي: أكرمني في جملة مَن أكرمهم، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله: نصب على الحال، أي: كائنين في أصحاب الجنة، ومعدودين فيهم، { وَعْدَ الصِّدق } أي: وعدهم وعداً صدقاً، فهو مصدر مؤكد، لأن قوله: { يتقبل ويتجاوز } وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز، { الذي كانوا يُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام.
الإشارة: لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما، وفي الحقيقة: ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق، ظهرت في تجلِّي الوالدين، قذف الرأفة في قلوبهما، حتى قاما بتربية الولد، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة. وقال الورتجبي: وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه، لأنهما أسباب وجوده، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته، وأنوارُ ربوبيته، فحُرمتهما حرمة الأصل، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته.
قال بعضهم: أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين، وفّقه بركةُ ذلك، لحِفظِ حرمات الله، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس.هـ.
قال القشيري: وشر خصال الولد: التبرُّم بطول حياتهما، والتأذي بما يجب من حقهما، وعن قريب يموت الأصل، وقد يبقى النسل، ولا بد ان يتبعَ الأصل. هـ. أي: فيعق إن عقّ أصله، ويبر إن بر، وفي الحديث:
"برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم" . ثم قال: ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا:

رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا

هـ.
قلت: وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين، فيُقدم أمره على أمرهما، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال عقوقهما، فقال: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ }.